اليوم هو الخامس من يونيو، وهو يوم تاريخى تعارفنا عليه باسم «النكسة»، وأسرفنا فى الكتابة عنه، واستخدمناه كحائط مبكى لجلد الذات، وتعميق جرح الهزيمة فى نفوسنا، الأمر بالنسبة لمعظمكم يبدو منطقيا، حتى بعد أن انتصرنا فى السادس من أكتوبر، فالنكسة تأتى، كل عام، لتنكأ جرحا لا يندمل، كأنها «كربلاء مصرية» تنتعش فيها مواكب «التعديد»، و«اللطم»، وغرس سيوف الألم فى خاصرة الأمل، وبصراحة هذه المازوكية التى وصلت إلى حد المرض العام تغيظنى جدا، وأحاول منذ سنوات طويلة أن أعترض عليها بشدة، لكن صوتى يضيع وسط أصوات النواح على الأطلال و«قفا بنا نبكى»، والأمر بالنسبة لى لم يكن سياسيا على الإطلاق، لكننى ببساطة من مواليد 5 يونيو، وليس ذنبى أن يرتبط يوم مولدى بالهزيمة، 5 يونيو مجرد تاريخ ليوم واحد سبقته أيام وتلته أيام، ولا يمكن ليوم واحد أن يحكم مصير أمة، كما لا يمكن ليوم واحد أن يصير عمرى كله، فالعمر أيام كثيرة، واللحظات الفاصلة فيها مثل «يوم الامتحان»، مجرد لحظة تكشف ما قبلها وتفتح الطريق لما بعدها.. 5 يونيو كشف عن مشكلة فى رؤيتنا لذاتنا القومية والوطنية، حاولنا الاستفادة من الهزيمة لنصنع النصر، وقد صنعناه فعلا، لكن مرارة الهزيمة ظلت عالقة فى روحنا، ولا أدرى كيف لم يستطع النصر أن يمحو فينا الهزيمة؟! كيف لم يستطع أن ينزع من قلوبنا ذلك الخوف الأسود من الغد، حتى صار الغد كابوسا مخيفا لا نعرفه ولا نريده، هل «انتكسنا» فى 6 يونيو بسياسات أضاعت من أعماقنا أى شعور بغد آمن وهانئ، فأصبحنا عاجزين عن تخيل يوم أفضل من الأمس، وحنطنا جثة الماضى ودخلنا معها التابوت حتى أصبحنا أمة بلا خيال ولا حلم بالغد، أعناقنا ملتوية للخلف، ولا أمل لنا فى بطل أو عصر جديد؟! أنا زهقت من «عدودة» 5 يونيو ومن حقى أن أفرح بيوم مولدى، من حقى أن أفرح بإنجازات مذهلة أعيشها فى زمن يشتمه الجميع، صباح مساء. منذ سنوات، سألت أستاذى الفيلسوف الراحل زكى نجيب محمود: كيف نحكم على مستوى الزمن الذى نعيشه؟ فرد بفلسفته المعهودة: بالقياس على معيار، طالبته بمزيد من التفسير فاستطرد قائلا: لو أخذنا الحرية كمعيار، فإن الزمن الذى تتحقق فيه الحرية بصورة أكبر هو أفضل من غيره، فمثلا إنسان العصور القديمة كان محدود الحرية فى التنقل، مقارنة بإنسان العصر الحديث، إذن فإن حريتنا أوسع بكثير من حرية إنسان الزمن القديم، ووفق هذا لا تعجبنى شعارات العودة للزمن الجميل، أو القفز لمستقبل الخيال العلمى، فأنا أريد أن أعيش زمنى، وأريد أن أفرح بأيامى وفى مقدمتها يوم مولدى، وأن أحلم بغد أجمل لى ولبلدى، فمهما قيل عن الفساد، ومهما سمعت من هجائيات ضد هذا «الزمن الردىء» فهذا عمرى، وهذه أيامى وأنا أحبها، وأشعر بأن فيها الكثير من النعم والإنجازات العلمية التى يمكننى أن أستمتع بها ولا يعكر صفوى إلا نحيب المتباكين، فأرجوكم أرجوكم لا تفرضوا بكائيات الانكسار على مسامعى بعد اليوم، لأننى مهما قلتم سأعلن عليكم الفرح حتى فى يوم 5 يونيو، لأننى بعد كل هذه السنوات تأكدت أنه كان يوم البداية وليس يوم النهاية.. على الأقل بالنسبة لى.