فى سياق التعامل بكفاءة مع الأزمة الاستراتيجية التى تعكس صراعاً دولياً مفتوحاً دعنى أولاً أحدد معالم الموقف المصرى ومن ثم السودانى بوضوح فى أربع نقاط رئيسية: أولاً، ارتكزت السياسة المائية المصرية فى أحد محاورها على توطيد علاقات التعاون مع دول حوض النيل على أساس من الإيمان بضرورة تنمية موارد وطاقات النهر المائية والعمل على حسن إدارتها، بما لا يتعارض مع الأمن القومى المصرى، ودونما التفريط فى حقوق مصر الثابتة والمكتسبة فى مياه النيل.. ثانياً، تؤكد دولتا المصب «مصر والسودان» مشروعية الاتفاقات الدولية القائمة استناداً إلى مبدأين رئيسيين فى القانون الدولى وهما: 1- مبدأ التوارث الدولى للمعاهدات. 2- مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة وعدم جواز المساس بها وذلك حرصاً على استقرار النظام الدولى. وهذه الحقوق تحفظها وتنظمها عدة معاهدات واتفاقيات مع دول الحوض اعتباراً من اتفاقيتى 1902 و1906 مع إثيوبيا، واتفاقية 1929 مع دول الحوض فى البحيرات الإستوائية، واتفاقية 1959 مع السودان، وكانت جميعها تدور حول عدم إقامة أى مشروعات على مجرى النهر أو فروعه تقلل من نسبة تدفق المياه.. ثالثاً، كما تصر مصر والسودان على ضرورة إعمال شرط الإخطار المسبق بشأن جميع المشروعات المائية إعمالاً بمبدأ من مبادئ القانون الدولى وهو «عدم التسبب فى الضرر».. رابعاً، أعلنت مصر والسودان ضرورة التزام كل دول حوض النيل باحترام قاعدة التصويت بالإجماع عند نظر تعديل أى بند من البنود الأساسية لاتفاقية مبادرة دول حوض النيل أو الأغلبية بشرط أن تكون مصر والسودان ضمن الأغلبية، بينما دول المحور والمعارضة فى شرق وجنوب الحوض صاغت موقفها كالتالى: أولاً، عدم مشروعية اتفاقيات مياه النيل السابقة والمطالبة بالتغيير نظراً لكونها أبرمت فى الحقب الاستعمارية، ومن ثم تدعو دول المنبع بإحلالها باتفاق جديد. ثانياً، عدم لزومية شرط الإخطار المسبق عند القيام بمشروعات مائية قطرية أو جماعية أو فردية على مجرى الحوض المائى، حيث ترى دول المنبع عدم التقيد بالإخطار المسبق كشرط سابق على أى مشروعات مائية تزمع إنشاءها لأن ذلك يعوق مشروعاتها التنموية. ثالثاً، سعى دول المنبع لتمرير اتفاق إطارى تعاونى جديد بغية إنشاء مفوضية دائمة لدول حوض النيل بغض النظر عن مشاركة دولتى المصب مصر والسودان وذلك عوضاً عن الاتفاقيات القديمة لتوزيع مياه النيل مع فتح الباب لانضمامهما فى المستقبل، بحيث تستطيع الذهاب للدول المانحة لتمويل مشروعاتها النيلية والزراعية. ا لآن قامت دول المنبع بتوقيع هذه الاتفاقية الإطارية الجديدة، ضمت فى البداية أوغندا وإثيوبيا ورواندا وتنزانيا وبعدها التحقت كينيا وأعلنت الكونغو أنها ستلتحق فى 28 يونيو 2010، وأعلنت بوروندى أنها ستلتحق بعد انتخابات الرئاسة بها، الأمر الذى يقول لنا عدة معانى استراتيجية ستساعدنا فى الوصول إلى استراتيجية فعالة للتعامل والمواجهة: أولاً، هناك إصرار كبير من دول المنبع على المضى فى بناء وممارسة اتفاقية إطارية جديدة. ويرى المصريون على الأخص أن هناك عدداً من الثوابت يجب ذكرها وهى أن حصة مصر من مياه النيل المتاحة حاليا 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، هذه الحصة تضمنها الطبيعة الجغرافية حيث المنحنيات والانحناءات الصعبة لا يوقفها شىء، ويتدفق الماء من مجرى النهر من الجنوب إلى الشمال دون تدخل ولا فضل لبشر فى ذلك. وتكمن أهمية نهر النيل فى أنه يمثل 95% من مياه مصر. ومن ناحية آخرى، فإن التطور فى استخدام المياه فى دول حوض النهر جعل هذه الدول ترغب فى زيادة حصصها من مياه نهر النيل حتى تستطيع تنفيذ عمليات التنمية التى تقوم بها ومن ثم جاء الحديث عن تعديل مبادرة دول حوض النيل. هذا وتستطيع دول المنبع تلبية احتياجاتها من المياه من خلال مصادر أخرى، وذلك من وجهة نظر بعض المراقبين، عن طريق استغلال الفاقد من المياه فحجم التساقط المطرى على دول حوض النيل العشر يبلغ 1661 مليار متر مكعب من الأمطار تذهب هباء دون استغلال. أما الهضبة الإثيوبية، فيسقط عليها 527 مليار متر مكعب يصل منها إلى أسوان حوالى 13 مليار متر مكعب فقط ويتم فقد الباقى بأكمله فى المستنقعات، وهو الأمر الذى يدعو إلى ضرورة تعزيز التعاون بين دول الحوض لاستخدام هذه الفواقد إلى جانب تشجيع الاستثمار. فالمشكلة لا تكمن فى قلة أو ندرة المياه وإنما فى عدم إدارتها بطريقة تكاملية ووجوب حسن استغلالها دون الإضرار بمصالح باقى الدول، وهو ما سيتم تفصيله فى المقال المقبل. ويستمر التحليل.