آه... لعلنى كنت من أوائل من استقبلوا الأبنودى بمجرد مجيئه فى قطار الصعيد الذى ألقى به فى أحضان القاهرة، لذا فكلما استرجعت مراحل العمر أجده ماثلاً فيها دون أن يقتصر حضوره على الإنسان ولكنه يمتد للشاعر أيضاً. فالأبنودى ليس من أكبر الشعراء العرب ولكن هو أكبر شاعر عربى معاصر. أقولها بكل ثقة رغم تردد الكثيرين فى إعلانها بدعوى أنه شاعر عامية لا فصحى. وهى دعوى لا تمثل فى رأيى أهمية لأن الأبنودى خطا خطوات لم يخطها شعراء الفصحى. صحبته وشاهدته وهو يلقى الشعر فى بلاد عربية كاد يقترب فيها من منازل الأولياء الصالحين. لم أرافق الأبنودى فى السفر وحسب ولكننا ترافقنا فى المعتقل فى الستينيات الذى حوله هو لبهجة. كنا فى حبس انفرادى لا نعرف سوى أرقام زنزانة كل منا. كانت زنزانته تحمل رقم 15 بينما أنا رقم 34 كانتا متقابلتين. وكان الأبنودى يشاغب حراس السجن طيلة الوقت وكان يعرف حبى لصوت المبدعة ليلى مراد، فكان ينادى على ويقول لى: «يا 34 سمعنا ليلى مراد». هكذا كان، فأضفى الفكاهة على أيام السجن. أحياناً أجلس وأفكر فيه فأجده مثل أمهاتنا فى الصعيد مخزنا للتراث تساعده ذاكرة مدببة وحادة تحفظ التفاصيل، وصدر يحوى الحكمة والصبر والقدرة على الاحتضان. وأعلنها اليوم أننى لم أجد من نجح فى احتوائى بعد أمى سوى عبدالرحمن الأبنودى، كان يدرك حجم حماقاتى وسرعة غضبى فيتقبل مبرراتى بمجرد اعتذارى له. ولعلنا لم نتعارك منذ سنوات قليلة مضت، لعل السبب كبر السن وأننا وجدنا أن ما تبقى لنا لن يكون كالعمر الذى مضى. وعندما أتحدث عن الأبنودى أجد الحديث يأخذنى عبر عدد من المحاور أولها أنه شاعر أغنية طالما ألححت عليه أن يجمع ما كتب فى ديوان للأغانى حفاظاً على أعمال لن تجد مثيلاً لها فى زمن بتنا نسمع فيه أبوالليف وأبوالخيش. محور آخر لدى عبدالرحمن هو حرصه على تجميع التراث الشعبى، فلو قلت الصعيد يبقى عبدالرحمن، هو أحد القلائل الذين عرفوا الصعيد وحكايات بشره ومخلوقاته وطرقه. أنظر للمجهود الذى يبذله فى الحفاظ على السيرة الهلالية وأتعجب من مثابرته. أذكر أنه فى أحد الأيام طلب منى مرافقته لزيارة شخص يدعى «سيد غشيمة» كان أحد حفاظ الهلالية فى الصعيد، ذهبنا فوجدنا الرجل يحتضر فى فراش الموت، وعندما شاهد الأبنودى احتضنه بحب وقال له: «لم أكن أريد الموت قبل رؤيتك». بعدها بثلاثة أيام علمنا بخبر وفاته. هكذا استفاد الأبنودى من صدقه وتبسطه، حب الناس حتى إنه كان من أكثر مهاجمى الإرهاب وكان يركب سيارات التاكسى بينما المثقفون لديهم سيارات المؤسسات التى يعملون بها. كنت أخاف عليه وأقول له «خد بالك» فكان ينظر لى بعتب ويقول لى: «مش عيب راجل صعيدى يجول كده». لم يخش الأبنودى شخصا أو مرحلة فى أى وقت من عمره، كان يطلق العنان لقصائده وأشعاره تعبر عن نبض الشعب، عندما وقعت نكسة يونيو 67 كان بيته فى باب اللوق مفتوحاً للجميع من الذين سكنوا الشارع وقالوا لا للتنحى. ودون اتفاق بيننا كان قرار السفر للجبهة، أنقل أنا يومياتها كمراسل حربى وأنتجت «أرض أرض»، و«الرفاعى» بينما أهدانا الأبنودى «وجوه على الشط». لقد أطلق المصريون على الأبنودى لقب الخال ولم يطلقوا عليه لقب العم والسبب أن الخال فى الموروث الشعبى المصرى أكثر عطفاً وحناناً لأنه لا يطمع فى ميراث. ولا يمكن فهم الشعب المصرى إلا من خلال أعمال عبدالرحمن التى كان لها فى كل الأوقات تأثير كبير لا يقل عن أعمال كبار شعراء العالم. أهم ما فى عبدالرحمن إصراره على أن يعيش اللحظة بفلسفة البسطاء وروحهم المرحة التى لا تقبل الهزيمة حتى فى لحظة الألم. ذهبت له فى محنته الأخيرة أشد من أزره، وكادت الدموع تنفطر من عينى عليه فوجدته يهون على ويسأل عن زوجتى ويدعو لها بالشفاء وهو فى العناية المركزة. أتمنى أن تتولى وزارة الثقافة ترجمة أعماله فتصل للناس فى كل بلاد العالم، فلا يفصل الأبنودى عن العالم سوى حاجز اللغة، فلنهدمه ونعبر بأعماله إلى خارج الحدود. جمال الغيطانى