كنا نضحك على الأفلام القديمة التى كانت تبيع البطلة فيها جسدها وتعمل فتاة ليل كى تجمع ثمن العملية الجراحية التى ستنقذ بها حياة أمها!! كنا نصف هذا بالتهريج والمبالغة، أو بلغة الفن الإغراق فى الميلودراما الفاجعة، ولكن ما كنا نطلق عليه تهريجاً فى الماضى حوّله التليفزيون المصرى إلى واقع جد جداً، فالتليفزيون المصرى صار مستعداً لتقديم أى شىء وخلع أى رداء فى مقابل المزيد من الإعلانات، وفى سبيل المزيد من الرواتب الفلكية لمسؤوليه ورؤساء قنواته. حلقة الصلح خير من برنامج «مصر النهارده»، وما قيل فيها من ألفاظ، وما تناثر من رذاذ تعبر أصدق تعبير عن الفلسفة التى صارت تحكم فكر التليفزيون الحكومى المصرى الذى خصخصت الحكومة كل شىء فى مصر ما عداه، واستثنته بدعوى أنه صمام أمن مصر الإعلامى، وصبرنا وقلنا يمكن عندهم حق، فمن سيقدم البرامج الثقافية فى مصر إلا التليفزيون الحكومى، ففوجئنا بإلغاء كل البرامج التى تتعلق بالأدب والفن التشكيلى والموسيقى.. إلخ، وقلنا هو التليفزيون الوحيد الذى سينتج برامج أطفال، فإذا به يلغى برامج الأطفال ومسلسلاتهم، اقتنعنا بأن التليفزيون المصرى هو نافذتنا الوحيدة التى سنطل منها على الأفلام التسجيلية العلمية والتاريخية التى لا تجلب إعلانات، ولكنها تصنع عقولاً وتشكل وعياً ولا تزيفه، فإذا بمسؤولى ماسبيرو يشطبون على كل الأفلام التسجيلية، وصارت البقرة المقدسة التى يصلى لها كل مسؤول تليفزيونى هى الإعلانات، وصار من حق الشتائم وهتك الأعراض وتلويث السمعة والردح أن تقتحم وتلوث آذان وعيون المشاهدين، لأن هناك 96 إعلاناً ستصاحب هذا الهراء، الذنب ليس ذنب ضيوف البرنامج، ولكن الذنب ذنب وزير الإعلام الذى زرع هذه الفلسفة فى عقول أبناء ماسبيرو، فلسفة «امنحنى إعلاناً ألوث لك إعلاماً»! الذنب ذنب الصديق الرجل الفاضل أسامة الشيخ الذى أعرف نشاطه وحماسه، ولكنه فهم خلطة النجاح بشكل خاطئ، ولم يعرف أنه ليس بالضرورة كل مثير ناجحاً ويستحق العرض على الشاشة.. الذنب ذنب محمود سعد الذى كان من الممكن أن يعقد جلسة الصلح فى فيلته الخاصة، ومعه الشيخ الذى يعجبه مرتدياً عدة الشغل الجلبابية ومعها السبحة العملاقة، أو مرتدياً البدلة الباريسية ومعها دبوس الكرافتة الألماظ! ألم يكن كل هؤلاء يعرفون أن مثل هذه الألفاظ والإيحاءات ستقال وتتردد على الشاشة، أم أن أورجازم ونشوة ولذة الإعلانات قد سلبتهم الوعى. أنا فى منتهى الحزن على انهيار حائط الصد الثقافى الأخير لجيل لم يعد يشرب الثقافة إلا من التليفزيون، وإذا وجدت العذر للفضائيات الخاصة فلن أجده للتليفزيون المصرى الذى كنت أنتظر منه قناة وثائقية مثل الجزيرة، أو برامج علمية مثل ديسكفرى أو ناشيونال جيوجرافيك. يا سيادة وزير الإعلام, يجوع التليفزيون ولا يأكل بإعلاناته، نحن على استعداد للاكتتاب والتسول من أجل تليفزيون ينهض بثقافتنا ولا يهبط بها إلى الدرك الأسفل.
