فرضته علينا الجغرافيا والتاريخ، صار جزءاً من كياننا كدولة محورية فى منطقتنا، وعاملاً مؤثراً على طاولة مفاوضات أى قضية مصيرية فى محيطنا. هكذا كان دور مصر فى المنطقة العربية والشرق الأوسط، الذى لم يبدأ منذ بناء مصر الحديثة فى عهد محمد على وحسب، كما يظن البعض، ولكن منذ تاريخ مصر القديم الذى عرف المعاهدات وعرف قيمة الموقع وتأثيره، لا على المحيط الخارجى فقط، ولكن على الشأن الداخلى أيضاً. دليلنا على ذلك الكثير من الوقائع لعل أبرزها إدراك ملوك مصر منذ القدم لأهمية توثيق العلاقات مع دول الجوار كما حدث منذ عهد حتشبسوت وتسييرها الرحلات لبلاد «بونت» التى تسمى الصومال حالياً مدركة عمق البعد الاستراتيجى لمصر فى الجنوب الأفريقى ومدعمة إياه بالتبادل التجارى، وكما حدث فى معاهدات صلح وقعها رمسيس الثانى مع ملك الحيثيين فى سوريا عقب نصره عليهم فى موقعة قادش. وهكذا كان هناك إدراك منذ القدم لجغرافية مصر وموقعها وتأثيرهما على سياستها. إلا أن هذا الدور الاستراتيجى لمصر الذى نتحدث عنه اليوم بات متهماً بالتراجع مفسحاً الطريق للاعبين آخرين فى المنطقة باتوا يفرضون آراءهم ويعلنون مواقفهم يوماً بعد يوم عن رغبتهم فى تولى ذلك الدور الذى يرون أن مصر استأثرت به لسنوات طويلة. ويبقى السؤال: هل تنازلت مصر عن العُمودية بحق؟! ولماذا إن كان هذا قد حدث بالفعل؟! وما السبيل لاستردادها دورها وتفعيله إن كان قد غاب؟! وهل من الممكن تطوير تواجد هذا الدور بشكل يتيح لمصر أن تظل الأكثر تأثيراً فى ظل ظهور لاعبين جدد فى المنطقة؟ لا يمكن تحديد موقع دولة ومدى تأثيرها بعيداً عن المناخ العام المحيط بها ونظرة دول العالم لهذا التأثير والوجود. ولذا ينظر البعض للدور المصرى من خلال عدة أبعاد منها البعد الإقليمى فى المنطقة وقدرتها على الإمساك بأطراف القضايا المختلفة فى المنطقة وفى مقدمتها الصراع العربى الإسرائيلى، والعلاقات العربية العربية. وهناك البعد الدولى الذى يُعنى به مدى قدرة مصر على خدمة المصالح الغربية فى المنطقة العربية من ناحية ومنطقة الشرق الأوسط عموماً من ناحية أخرى. وتأتى الولاياتالمتحدة فى مقدمة الدول الغربية التى تحدد قيمة الدور المصرى، ومدى تأثيره عبر تقارير تنشرها بين الحين والآخر، ويراها البعض مجرد ورقة ضغط على النظام المصرى لتحقيق بعض أهداف السياسة الأمريكية التى تلوح بتراجع الدور المصرى فى المنطقة، وقدرة أمريكا على الاعتماد على أطراف آخرين كلما توترت العلاقة مع مصر. أحد هذه التقارير كان قد أصدره مجلس الاستخبارات القومى الأمريكى منذ نحو العام مؤكداً فيه تراجع الدور المصرى على مدار السنوات الخمس الأخيرة، مبرراً ذلك بالعديد من الأسباب والعوامل من بينها ترهل نظام الحكم فى مصر وما أصابه من شيخوخة طالت جميع رموزه على حد تعبير التقرير، وكذلك عدم تمتع مصر بأى مزايا تنافسية مقارنة بغيرها من الدول التى توصف بالمحورية فى المنطقة، مثل تركيا وإيران، على الرغم من سياسة العداء بين الأخيرة وبين دول الغرب بسبب برنامجها النووى. بالإضافة إلى ما وصفه التقرير بضياع مصر بين تيارات سياسية إقليمية متضاربة سحبت المنطقة من تحت نفوذها لافتقادها أى مخطط سياسى أو اقتصادى جذاب يمنحها التميز فى عصر العولمة. وبعيداً عن التقرير الذى قد يجد من يؤيده أو يعارضه، فإن تراجع دور مصر فى المنطقة العربية أو محيطها الإقليمى لم يبدأ منذ خمس سنوات وحسب، ولكنه بدأ منذ انحسار الفكر الناصرى بعد تولى الرئيس السادات الحكم فى عام 1970، وتزايد بعد انتصار القوات المسلحة فى حرب أكتوبر عام 1973 وهو ما سبق للدكتور وحيد عبدالمجيد نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية التعبير عنه بالقول إن هناك العديد من القضايا التى غابت مصر عن لعب الدور الرئيسى فيها فى السنوات الأخيرة، كما حدث عند توقيع الأطراف السياسية اللبنانية لورقة مصالحة فى قطر، واتفاق مكة لتسوية النزاع بين فتح وحماس رغم فشله، وهو أمر بدأ مع تراجع الفكر القومى الذى ساد أيام حكم الرئيس عبدالناصر، وحل محله الاهتمام بالشأن المصرى حتى لو تم فصله عن محيطه العربى، كما حدث عندما غابت مصر عن الساحة اللبنانية بعد موافقة الرؤساء العرب على تشكيل قوات ردع عربية للتواجد فى لبنان فى القمة العربية المصغرة التى عقدت سنة 1976، وموافقة الرئيس السادات على أن يكون لسوريا النصيب الأكبر من تلك القوات وبنسبة 90%، لينسحب التأثير المصرى من الساحة اللبنانية وهو خطأ لم نستطع تداركه وبخاصة بعد التقارب بين سوريا وإيران التى أصبحت لاعبا رئيسا الآن فى لبنان. يرى علماء السياسة والخبراء أن قيام دولة ما بتولى مهام قيادة منطقتها الإقليمية، لا يتحقق برغبة أو حديث أو تمن، ولكنه يتحقق بقدرة على الأداء الوظيفى لتلك القيادة التى تتطلب هى الأخرى عددا من المواصفات فى مقدمتها العلاقات المتوازنة مع كافة الأطراف حتى هؤلاء الذين نختلف معهم فى التوجه والرؤية، وهو ما فعلته تركيا فى سياستها الخارجية فى السنوات الأخيرة، وتزايد مع مجىء الدكتور أحمد داود أوغلو وزيرا للخارجية فى حكومة رجب طيب أردوغان. وعبر عنه بنظرية «المشاكل صفر» وعنى به إنهاء جميع الخصومات مع جميع الدول التى ترتبط معها تركيا بعلاقات جوار أو علاقات سياسية. وهو ما نفذه مع إيران وسوريا لتصبح تركيا اليوم هى اللاعب الرئيسى فى المنطقة وفى ملفاتها الساخنة. على النقيض من هذا الرأى يقف الدكتور مصطفى الفقى رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشعب والسياسى البارز، حيث يرى أن دور مصر ليس عباءة ترتديها مصر وقتما شاءت ويخلعها عنها الآخرون وقتما أرادوا، لأن الدور المصرى جزء من التكوين الجغرافى والتاريخى لبلدنا على حد تعبيره. وأضاف: «لا يمكن أن يتراجع الدور المصرى فى المنطقة مهما حدث، لأن دولة فى حجم مصر وموقعها وتاريخها لا تزال تمتلك خيوط اللعبة مهما ظهر لاعبون جدد حاولوا بين الحين والآخر إثبات وجودهم بمعاهدة أو اتفاق. ما حدث فقط أن مصر غيرت من سياستها للحد من الفكر القومى العربى لصالح الفكر القومى المصرى، وهذا أمر طبيعى بعد رؤيتنا لنتائج سنوات عشناها فى خدمة القضايا العربية لم نجن من ورائها النتائج المرجوة منها. وبعيداً عن خلافات الرأى حول تراجع الدور المصرى من عدمه فى السياسة الخارجية، يطرح السؤال ذاته حول مدى إمكانية التقارب فى الأدوار بين مصر واللاعبين الجدد، وهو سؤال يتحدث عنه دكتور أحمد عبد الحليم عضو المركز المصرى للشؤون الخارجية، بالقول إن التقارب مع دول مهمة استراتيجياً فى المنطقة مثل تركيا على سبيل المثال بات من الأمور الأساسية لمصر فى عالم بات لا يعرف إلا التكتلات فى ظل غياب الصوت الأوحد.