كان سيتى الثانى الذى حكم مصر منذ عام 1200 إلى عام 1194 قبل الميلاد مثاليا حالما. لم يكن من العسكر المقاتلين مثل رمسيس الأول أو الثانى أو حورمحب أو تحتمس الثالث، وقد وصل إلى الحكم نتيجة للخلاف المستحكم بين كبار العسكر والذى وقف فيه معظمهم إلى جانب غريمه أمنمسو، وهو ابن واحدة من بنات رمسيس الثانى، وقد تولى أمنمسو الحكم بالفعل بعد رحيل مرنبتاح رغم أن مرنبتاح كان قد اختار سيتى الثانى ليخلفه بعد وفاته لكن العسكر انقسموا على أنفسهم بعد ثلاث سنوات من حكمه مما مكن سيتى الثانى من الجلوس على عرش مصر. بدأ سيتى الثانى حكمه بالتركيز على بناء المعابد بدلا من الحملات العسكرية. كان يتمثل دائما مدونة تأسيس معبد الآله أتوم الذى أقامه سنوسرت الأول فى هليوبوليس حوالى عام 1960 قبل الميلاد والتى تقول كلماتها المنقوشة على وجهى قطعة من الجلد: خالد هو ذاك الشىء الحسن الذى صنعته، فالملك المعروف بإنشاءاته لا يموت أبدا. ورغم أن المعبد الذى شيده سنوسرت لآتوم لم يعد موجودا الآن إلا أن أبنية سيتى الثانى التى استلهمها من ذلك المعبد مازالت صامدة فى الكرنك وفى الرامسيوم وغيرهما. على أن قادة الجيش ظلوا يناصبون سيتى الثانى العداء، فكان أن اتخذ قرارا حاسما بالتخلص من العسكر الذين كانوا يسيطرون على مقاليد الأمور ويقررون من الذى يتولى الحكم، حيث حصلوا على مزايا كبيرة وعلى أموال طائلة خلال حكم الفراعنة السابقين فسحب سيتى الثانى منهم امتيازاتهم، وصادر أملاكهم، وحظر عليهم التدخل فى شؤون الحكم، إلى أن قضى تماما على نفوذهم. وقد أدى ذلك إلى تذمر قادة الجيش الذين شكلوا وفدا وذهبوا إلى قصر فرعون يحاولون إثناءه عن قراراته، لكنه كان صلبا فى موقفه حيث قال لهم: «الجيش وجد فقط للقتال وليس لحكم البلاد، حين تحتاجكم البلاد للدفاع عن أراضيها سنخطركم بذلك. أما فى وقت السلم فلا شأن لكم بالحكم الذى هو من حق فرعون وحده ابن رع رب الشمس وإله الآلهة فى السماء. قال قائد الجيش: «اترك لنا أملاكنا ولن نتدخل فى حكم البلاد». فرد فرعون: «تلك الأملاك سلبت من الأملاك العامة. مالكم أنتم بالأملاك؟» فرد القائد: «لم نسلب أحدا شيئا.لقد منحها لنا ملوك البلاد»، فجاء رد فرعون: «قد كانت رشوة خطيرة تستوجب المحاكمة للراشى والمرشو معا، لكنى أعدتها للأملاك العامة وجنبتكم حكم العدالة، فاذهبوا الآن ولا تعودوا للجدل فى هذا الموضوع». وخرج العسكر من قصر فرعون وقد ازدادوا غضبا، لكنهم كانوا بلا حول ولا قوة. كان الجيش المصرى فى ذلك الوقت مليئا بالأغراب من المرتزقة اليونانيين أو الفينيقيين أو من العبيد الذين كان الجيش وسيلتهم للانعتاق، لذلك فإن تقليص قوة الجيش كان بالنسبة لسيتى وسيلة للحد من الاعتماد على الأجانب الذين أصبحوا يتمتعون بنفوذ وبمزايا رفعتهم فوق باقى أفراد الشعب. كان لسيتى الثانى ابن لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر هو سبتاح الذى كان يعده كى يخلفه على العرش. كان سيتى دائم التحدث لابنه عن حضارة مصر العظيمة وعن المجد الذى ارتبط بتاريخها على مر العصور، وفى أحد الأيام سأل سبتاح والده وهما عائدان من رحلة صيد صحراوية فى العربة الملكية التى كانت تجرها ستة خيول: «لماذا يا والدى لا تريد أن يكون لمصر جيش؟» فقال له والده ما أدهشه: «لقد صنعت مصر حضارتها العظيمة بدون جيش. لم يكن لخوفو العظيم جيش، ولا لخفرع ولا لمنقرع ولا لسائر ملوك الدولة القديمة التى تركت لنا أعظم الآثار». فسأله سبتاح: «إذن كيف كانوا يقومون بغزواتهم؟» فشرح له فرعون أنهم كانوا يعبئون جيشا كلما كان له احتياج، سواء للحملات العسكرية، أو لبناء هرم فرعون، أو للعمل فى المحاجر لإخراج الحجارة اللازمة لتشييد المعابد، أما بقية الوقت فالناس جميعا يفلحون الأرض ويتكسبون منها كمواطنين عاديين وليس كعسكر فى جيش نظامى لا عمل لهم فى الحياة إلا القتال، لذلك فقد كان الجيش حين تتم تعبئته يكون كل أفراده من المصريين أبناء هذا الوطن الذين يدافعون عن أرضهم وعن زرعهم وليسوا مرتزقة كما تراهم اليوم». وتوقف ركب فرعون للراحة فى بقعة ظليلة بالقرب من أبيدوس فى طريق عودتهم من الصحراء، فأخذ سيتى الأول ولده إلى معبد ونى الجنائزى وقرأ له ما تم تدوينه على جدرانه قبل أكثر من ألف سنة فى وصف إحدى الحملات العسكرية فى أرض كنعان والتى قام بها جيش مكون من «عشرات الآلاف من المجندين» الذين تم جمعهم خصيصا لهذا الغرض، حيث لم يكن فى الدولة القديمة جيش نظامى. لم يكن سبتاح يعلم فى ذلك الوقت أن والده لن يستمر فى الحكم إلا ست سنوات فقط وأنه سيتولى الحكم بعده أقرب مما كان يتصور، لكنه كان يتحدث وكأنه يتخيل ما يمكن أن يواجه البلاد من أزمات حقيقية، فسأل والده: «ماذا لو تعرضت مصر فجأة لغزو خارجى؟» فرد فرعون: «فى هذه الحالة فقط سندعو إلى تعبئة الجيش». لم يقتنع سبتاح تماما بما قاله والده. فسأله: «وما الضرر فى أن يكون العسكر جاهزين من الآن؟» رد عليه والده: «الضرر كبير يا ولدى. غدا سأحدثك عنه وأروى لك ما فعله العسكر بالبلاد». لكن فى اليوم التالى مباشرة حدث ما سأل عنه سبتاح والده، فقد قام الآشوريون بقيادة مليكهم سينخرب بالهجوم على مصر فى غزوة مفاجئة لم يكن ينتظرها أحد، وكما قال سيتى لابنه دعا إلى تعبئة الجيش للتصدى لقوات الآشوريين قبل أن تصل إلى حدود البلاد، لكن قادة العسكر قدموا مصالحهم الشخصية على مصالح البلاد ورفضوا التعبئة. هرع كبير الكهنة إلى فرعون على رأس وفد من كهنة معبد الكرنك برسالة مؤداها أن يرضخ فرعون لمطالب العسكر إنقاذا للبلاد وللعرش أيضا. لكن سيتى الثانى قال لهم: «عجيب حقا أمركم. إن تاريخ بلادنا يؤكد أن الحكام كانوا طوال آلاف السنين من طبقة الكهنة مثلكم أو من الكتاب المدنيين إلى أن صار عسكر الجيش فراعنة لأول مرة فى الأسرة الثامنة عشرة، فهل إذا أردت اليوم إصلاح هذا الوضع كنتم أنتم الذين تحاولون إثنائى عن ذلك؟» قال كبير الكهنة: «مولاى فرعون العظيم، إن ما يتعرض للخطر اليوم هو أمن البلاد ذاته ونحن على استعداد للتغاضى عن حقنا المغتصب من أجل المصلحة الوطنية». فقال فرعون: «وهل أنتم مستعدون أيضا لأن يهان فرعون البلاد ويهزم أمام العسكر؟ كيف يتحقق انتصارنا على الغزاة إذا انهزم رأس البلاد ورضخ للعسكر؟ لقد اتخذت قرارى بإبعاد الجيش عن السياسة ولن أحيد عنه. واتخذت قرارى بالحد من امتيازات العسكر غير الطبيعية ولن أحيد عنه. أما إذا كان الجيش يرفض الآن تنفيذ أوامر فرعون بالدفاع عن تراب الوطن فتلك خيانة عظمى يحاكمون عليها الآن قبل أن يحاكمهم التاريخ». نظر الكهنة إلى بعضهم البعض ولم يردوا. بعد لحظة صمت قال كبير الكهنة: «صدقت يا ملك الملوك، ولكن كيف سنصد الغزاة الأشوريين بلا جيش؟» فرد فرعون: «سأحارب بالشعب» وانفض الاجتماع دون أن يفهم الكهنة ما قصده سيتى الثانى. فى اليوم التالى مباشرة نزل سيتى الثانى وولده سبتاح وأعوانه من رجال القصر إلى ساحات المدينة يتحدثون إلى الناس عن التهديد الذى تتعرض له البلاد على يد الآشوريين وعن عصيان الجيش. قال فرعون: «المعارك هى التى تظهر معادن الرجال، ونحن الآن نواجه معركتين الأولى لحماية البلاد من هؤلاء الذين يريدون اغتصابها من الخارج والثانية لحمايتها من أولئك الذين يريدون اغتصابها فى الداخل. إن علينا أن نخلص البلاد من الاثنين معا لتبقى مصر عظيمة مجيدة، حرة أبية، كما كانت دائما». ونظر فرعون إلى الجماهير وقال: «فى هذه المعركة أنتم سلاح البلاد الوحيد وهو سلاح جد خطير» . فهتف الرجال باسمه ورددت النساء الأهازيج، فقال فرعون: «هذا ليس وقت الهتاف والغناء. هو وقت العمل الجاد من أجل النصر، فأرونى ما أنتم فاعلون». فتقدم الشباب بصدورهم العارية التى لفحتها أشعة الشمس يقولون: «نحن جيش مصر إلى أن يزول الخطر!». وتمكن فرعون ورجاله خلال بضعة أيام من جمع آلاف المتطوعين الذين صرف لهم السلاح والعتاد وبدأ تدريبهم استعدادا لصد الغزاة. فى ذلك اليوم عاد فرعون إلى قصره هنىء البال وقال لسبتاح: «سترى الآن ما سيفعله الناس» فسأله سبتاح «لكن ينقصهم الوقت الكافى للتدريب» فرد والده: «قلة التدريب ستعوضها قوة العزيمة. لقد وصلتنى أنباء مؤكدة بأن قوات سينخرب وصلت إلى حدود سيناء وأن أعدادها لا تزيد على الخمسة آلاف بينما عندنا حتى الآن ستة آلاف متطوع، هم لديهم التدريب لكنهم يحاربون طمعا فيما ليس لهم، بينما رجالنا قد يعوزهم التدريب لكنهم يحاربون من أجل حماية وطنهم ودفاعا عما هو لهم، لذلك فسيجدون الوسيلة للانتصار على هؤلاء الغزاة». «كيف؟» سأل سيبتاح. قال سيتى: «لا أعرف». قال سبتاح: «إنى خائف يا والدى»، فرد والده: «لا تخف يا بنى فالحاكم الذى تكون قاعدة قوته هى تأييد الشعب يكون أقوى من ذلك الذى يعتمد على قوة السلاح». وفى الأيام التالية ازداد تأييد الناس لمليكهم والتف الناس حوله. وفى مدينة اللاهون القديمة الواقعة جهة الحافة الشرقية للفيوم اكتشف عالم المصريات البريطانى الشهير فلندرز بترى مجموعة من البرديات ما بين عامى 1889 و1890 صارت تعرف باسم برديات اللاهون وقد شاهدت إحداها فى متحف بترى فى جامعة يونفرستى كولدج بلندن، وكانت نقوشها الهيروغليفية تحكى قصة تأييد الشعب لحاكمهم فتقول فى أسلوب شعرى جميل: هو وحده يساوى الملايين والآخرون صغار. هو القاعة الرطبة حيث يستطيع المرء أن ينام نهارا. من يلجأ إليه لا يمكن ملاحقته. إنه الملاذ الذى ينقذ المذعور من أعدائه. إنه ظل الربيع الظليل والحمام البارد صيفا. إنه المكان الدافئ الجاف فى الشتاء. وهو السور الواقى من الريح حين يهب الإعصار فى السماء. ومع بداية تدريب المتطوعين بدأت أعدادهم تتزايد فكانوا يقومون بتنظيم أنفسهم إلى عدة فرق بعضهم مهاجم والآخر مدافع، وحددوا مواقع تمركزهم على الحدود وداخل البلاد، وحين وصل الآشوريون إلى الحدود الشرقية للبلاد وجدوا آلاف المقاتلين فى انتظارهم فتوقفوا فى أماكنهم وقال قائدهم: « سنبيت الليل هنا نتدبر الأمر إلى أن تصلنا إمدادات جديدة من بر الشام». أما داخل الحدود فقد تجمع الناس حول المقاتلين المتطوعين وأحضروا لهم الطعام والشراب وظلوا يحيطونهم بالرعاية والتأييد. ثم بدأوا ينفذون خطة عبقرية لم يكن يتصورها أحد، فقد أخذوا يصيدون كل الفئران التى طالتها أيديهم ووضعوها فى الأقفاص الفارغة التى أحضروا فيها الطعام للمتطوعين. فى اليوم التالى وصلت قوات جديدة للآشوريين وقال قائد القوات إنهم سيبدأون هجومهم على مصر صباح اليوم التالى، وحين حل الليل أطلق الناس الفئران الجائعة من أقفاصها على خيام الآشوريين وهم نيام فدخلت الفئران فى الظلام إلى الخيام وقرضت بأسنانها أوتار أقواسهم المصنوعة من أمعاء الحيوانات فلم تعد صالحة لإطلاق السهام، كما قرضوا المقابض الجلدية للدروع فلم تعد القوات قادرة على الإمساك بها أو تثبيتها فى زنودها. وفى الصباح حين فوجئت القوات الآشورية بما حدث أصيبت بهلع، وقال قائدهم: «إنهم سحرة فرعون!» وما هى إلا دقائق وكانت قوات الشعب المصرى تبدأ بالهجوم وتقبض على الأسرى الآشوريين بالمئات وهم بلا حول ولا قوة فكانوا يقدمونهم لسيتى الثانى رمزا لولاء الشعب للفرعون الذى آمن بهم فنصروه وانتصروا لأنفسهم. وقد كان ونى هو أول من نظم نشيد انتصار فى التاريخ، وكانت تلك هى كلماته: انتصر الجيش على الأعداء جيش الشعب المقدام الذى قضى على الأعداء الآتين من وراء الرمال طحنهم تحت الأقدام. انتصر الجيش على الأعداء المتربصين ببلاد الخير والنماء جيش الشعب المقدام الذى أسر جنودهم بعشرات الآلاف بفضل بركات آلهة السماء. نصوص: محمد سلماوى لوحات: مكرم حنين تنشر نصوص البرديات يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع