«وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما»، بهذا أمرنا الله حين يحدث شقاق بين الزوجين يصعب عليهما رأبه بمفردهما، وطالب بتدخل حَكَم يقرره أهل كل من الزوجين، ووضع شرطا للحكمين أن يريدا إصلاحا. أين ذهبت فكرة الاستعانة بأهل الحكمة والكبار قبل الدخول لأروقة المحاكم؟! إلى متى سنتخلى عن عاداتنا الحسنة وسنننا الطيبة؟! إلى متى سنتنازل عن مفردات شخصيتنا دون ندم؟! أكثر ما كان يميز الشخصية العربية التزامها بالكلمة. العهود كانت أقوى من العقود، وجلسات الصلح العرفية كانت بديلاً عن ساحات المحاكم واللجوء إلى القضاء، كل المشاكل بين أفراد العائلة الواحدة وبينهم وبين العائلات الأخرى كان يحكم فيها كبير القبيلة أو العيلة، كان حكمه نافذاً، لا نقض فيه ولا استئناف، الجميع يسلم بأن الحكمة والخبرة تستحقان الطاعة والتضحية بالمصالح الفردية من أجل مصلحة المجموع، حكم الكبير كان يراعى القيم والمبادئ المتعارف عليها، وكلما كان الحكم عادلا اقترب «الكبير» من القلوب.. تذكرت كل ذلك وأنا أتابع جلسة صلح عرفية بين عائلتين فى المعادى توسّط فيها المهندس أكمل قرطام، وقلت فى نفسى: «لسه فيه ناس يفرق معاهم الصلح بين عائلات لا تمت لهم بصلة قرابة أو نسب؟!، ولسه فيه عائلات بترضى بحكم غريب عنهم يكبرونه فى نفوسهم؟!» إن وقف نزيف الدماء بين عائلتين عمل جليل يثاب عليه من يقدم عليه فى الآخرة وفى الدنيا، فهل يقبل عليه الكثيرون، أم القلة التى مازالت تعيش عصر الفرسان من أمثال أكمل قرطام؟!. العودة لجلسات الصلح العرفية يمكن أن تقلل من العدد المهول من القضايا المعروضة على المحاكم كل عام، والتى وصل عددها لأكثر من 12 مليون قضية، لن تعود هناك حاجة لمحاكم الأسرة للنظر فى قضايا الأحوال الشخصية، وكذلك قضايا الميراث ومشاحنات الجيران، وأهل الحى، ولا يبقى للمحاكم إلا قضايا لا يمكن حلها بالطرق العرفية.. نظام المحلفين، المعمول به فى الولاياتالمتحدة وكندا وبعض دول أمريكا الجنوبية وأستراليا، قريب الشبه من جلسات الصلح العرفية عندنا، المحلفون الاثنى عشر يوفرون فرصة أمام المواطنين للمشاركة فى المحافظة على القانون وبناء المجتمع العادل، كما يهدف هذا النظام للحفاظ على النزاهة والحياد. التقاضى فى الأصل ليس هدفه العقاب، ولكن إصلاح أحوال المجتمع، والعقاب أحد وسائل هذا الإصلاح. الفهم المغلوط لدينا يؤدى بنا إلى تصرفات خاطئة تصعب علينا الحياة. لو تعاملنا على أن القاعدة هى الصدق والأمانة، والاستثناء هو الكذب والخيانة، لأصبحت حياتنا أقل تعقيدا مما هى الآن، ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بإدراكنا أن الكلمة هى فعل بمجرد خروجها من فمك. قال تعالى، واصفاً المؤمنين: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُون»، وطالب المسلمين بالوفاء بعهودهم قائلا: «وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا».. فوضى الكلام التى نعيشها لابد لها من نهاية، فهى جزء غير أصيل فى شخصيتنا وثقافتنا وديننا، وحان الوقت لندرك أننا نخسر الكثير بخسارتنا لأمانة الكلمة.