كيف يفهم الإنسان العالم ويستوعب معطياته ليتعامل معها؟ رأيى أن أعمق الردود على هذا السؤال هو الذى وصل إليه الفيلسوف الألمانى إرنست كاسيرر، الذى تيقن أننا نفهم ما حولنا بواسطة الرموز، وأن ليس لدينا أى وسيلة أخرى للتواصل غير التعبير الرمزي... الذى قد يكون لغويا، أى عبر الكلمات التى نستخدمها للحديث عن العالم، أو قد يكون فنيا، عن طريق الرسم أو الموسيقى مثلا، أو رياضيا، أى عن طريق الرموز المجردة التى يستخدمها العلماء لتمثيل الظواهر الطبيعية فى الكون عن طريق المعادلات. وفى كل حالة من تلك الحالات هناك علاقات تحدد معنى تلك الرموز عن طريق سياق استخدامها، فالنوتة الموسيقية الواحدة لا تعنى شيئاً تقريبا إن لم تتصل بالحان أخرى تليها وتسبقها، وهى التى تحدد منطق العمل الموسيقى ومن ثم مجمل الانطباعات والأحاسيس المعبرة عن نظرة الموسيقار للعالم التى قد تنتج عنها وتصل إلينا. كذلك فى حالة الرموز الرياضية، فلا معنى دقيقاً لها بدون المعادلات التى تعرفها وتربط بينها. وحتى فى المجال اللغوى- كما تيقن الفيلسوف العظيم لودفيك فيتجنشتاين فى نهاية حياتة، بعد عمر قضاه فى الصراع مع الموضوع- فلا معنى لها تقريبا دون السياق الذى يحدد معناها من خلال الربط بينها. أى أن معانى الرموز، حتى اللغوية منها، يحدد من مجمل استخدامها فى سياقات مختلفة، فلا شك أن كل قارئ يعرف أنه، حتى فى إطار ضيق مثل محاولة فهم كلمة لم يقابلها من قبل، فإنه يمكن أن يصل إلى معناها تقريبا إذا قرأ باقى الجملة أو الفقرة التى أتت فيها الكلمة، وأنه إذا قابلها مرات متكررة فى كتب أو مقالات أو عبر الخطاب العام المرئى والمسموع، يمكنه أن يتيقن فى النهاية بمعناها عن طريق فهم سياقات استخدامها المختلفة، دون الاحتياج لقاموس لغوى لفعل ذلك. بل إن فهمه لتلك الكلمة قد يكون أعمق وأدق بكثير إذا نتج عن هذا الطريق بالمقارنة عن الفهم الناتج من البحث فى المعاجم. يتضح مما سبق ثلاثة أشياء: أولا أنه لا يمكن فهم ما يحدث حولنا دون استيعاب الرموز التى تصل بين الإنسان والعالم الذى يحيطه، ثانيا أن هذا الفهم مرتبط عضويا بطريقة التعبير عن العالم وتنظيمه، عن طريق اللغة أو الفن أو العلم، ثالثا أنه، فى كل هذه الحالات، يحدث ذلك عن طريق تواصل جماعى بين أفراد المجتمع، وفى إطار أوسع بين مجتمعات العالم الإنسانى. أى أن محاولة فهم العالم والتعبير عنه تعكس مشروعاً إنسانياً جماعياً، ينتج عن طريق التواصل بين البشر. هناك بالطبع فروق بين طرق التعبير الرمزية المختلفة، فالكل يعرف أن ما يمكن توصيله عن طريق الموسيقى يختلف عما يمكن توصيله عن طريق الكلام، وأن ديوان الشعر يختلف فى ذلك عن المرجع الأكاديمى، وأن طبيعة المعلومات الكامنة فى المعادلات الرياضية مختلفة عن كل ما سبق.. لكن أين يكمن الاختلاف بالضبط؟ فى رأيى أن الاختلاف الجذرى بين الحالات التى سردناها يكمن فى دقة المعلومة التى يمكن توصيلها من خلالها. ففى حالة المعادلات الرياضية، يتفق كل من يفهم معناها على صحة محتواها من عدمه، وأيضا عن قيمتها فى شرح الظواهر الطبيعية. أما فى الحالات الأخرى، بالذات فى مجالى الفن والموسيقى، فيصعب فعل نفس الشىء (لأن الموضوع يتعلق بالإحساس والذوق وليس فقط بالمنطق أو التجربة). وهذا هو الحال أيضا فى مجال الشعر، الذى يتسم بالعمق التعبيرى، لكن الدقة المعلوماتية ليست من صفاته، وإلا صار شعرا ركيكا. كذلك أيضا فى مجال الشعارات السياسية والأيديولوجية، فكلما قلت الدقة جاز التعميم، وبدت الشعارات عميقة ورنانة. لكن على العكس الحال فى المجال الشعرى فإن ذلك لا يعلى من قيمتها.. لأن وظيفتها مختلفة، فهى من المفروض أن تهدف إلى تنظيم العالم الاجتماعى بطريقة عملية تتفق مع معطيات الواقع. أما لغة الكناية والخطابة فتفتقد الدقة والمنطق والرجوع إلى الواقع وتستبدلهما بالرموز التى تلمس وتر الأحاسيس، فتبدو أنها تتسم بالعمق لأنها لا تقول أى شىء دقيق يمكن نقده واختباره والاتفاق على هدفه ومعناه. وعندما يتبنى الخطاب العام فى مجتمع ما (وما أكثر الأمثلة فى عالمنا العربى) مثل هذه المنظومة الرمزية للتعامل مع العالم السياسى، يبتعد هذا المجتمع عن الواقع ويفتقد قيم التحليل والمنطق فى التعامل معه. فى العصر الحديث يعنى ذلك أن يتجه ذلك المجتمع نحو الركود المصحوب بالفوضى والتشرذم والانعزال، لأنه مجتمع فقد القدرة على التعبير الدقيق عن أوضاعه ومشاكله، أو التواصل داخليا أو مع الخارج.