مع هبوط مساء الخامس والعشرين من يناير 2011 كنت أقف وسط المحتشدين بميدان التحرير، لا أكاد أصدق الأصوات التى تهدر من حولى بسقوط النظام، راودنى لحظتها حلم بأن يزول ملك الطاغية ويسقط من فوق كرسى طغيانه، وطيلة الأيام التى أعقبت تلك الليلة كانت المشاعر تتأرجح بين اليأس والرجاء، فالأحداث كانت تتلاحق بصورة تحمل الأمل فى أحيان والإحباط فى أخرى، لكن حلم سقوط الطاغية كان يتجدد باستمرار بل ويلد أحلاماً أخرى. فمع انضمام الإخوان المسلمين إلى الثورة بعد الثامن والعشرين من يناير خايلنى حلم بأن الجماعة سوف تقدم نفسها كظهير للثورة وتقود الأمة على طريق الإصلاح الحقيقى انطلاقاً من كونها جزءاً من الشعب وليست عنصراً ممتازاً عن بقية المصريين. وعندما تدفقت مدرعات ودبابات الجيش إلى شوارع وميادين مصر ساورنى حلم بأن تنحاز قياداته إلى الشعب الذى ضج من الظلم والفساد وامتهان الكرامة وتردى الأحوال المعيشية. مرت الأيام وإذا ب«الإخوان» تعلن أنها جزء من هذا الشعب، وأن واجبها يقتضى أن تكون فى قلب ثورته لتأخذ بيده إلى سبل الإصلاح وتهديه إلى ما هو أقوم، وإذا بالمجلس العسكرى يعلن انحيازه إلى شعب مصر العظيم ومطالبه المشروعة. ومع هبوط مساء الحادى عشر من فبراير خرج علينا عمر سليمان بخطاب التنحى الشهير. كثيرون وقتها- ربما أكون واحداً منهم- ظنوا أن كل الأحلام صارت حقيقة وعاشوا ساعات- وربما أياماً- ينعمون بحالة من التفاؤل لم يعهدها جيل من أبناء هذا الشعب على مدار تاريخه. لم تكد تمر أيام على هذا الزخم حتى بدأت الأحلام تتكسر لنكتشف كذب الفجر الذى لاح فى الأفق، وأن كل الحقائق التى كانت تتردد من حولنا ما هى إلا أكاذيب كبرى. فالمجلس العسكرى الذى حلمنا بأن يكون حامياً للثورة تحول فى أيام معدودات إلى أداة قهر للمتظاهرين، وإذا بالشهداء يسقطون من جديد، بعد أن كاد نزيف الدم أن يتوقف مع الأيام الأخيرة للثورة قبل خلع «مبارك». ومن عجب أنه مع مرور كل شهر بدءاً من مارس 2011 كان عدد الشهداء يزيد بصورة لافتة، ففى البداية سقط شهيد أو اثنان ثم زادت الأعداد إلى العشرات خلال أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، حتى كان يوم المذبحة الكبرى فى بورسعيد ليستشهد 74 شاباً فى عمر الزهور فيما لا يزيد على ساعتى زمن!. ليس هذا فقط بل توالت أحكام البراءة لضباط وأمناء الشرطة المتهمين بقتل المتظاهرين بسبب إخفاء الأدلة التى تدينهم، وفى كل مرة تعبر فيه أى فئة من فئات الشعب عن الضيق أو الغضب من أداء المجلس كان يتم تأديبها بعصى وصواعق الشرطة العسكرية، بل ورصاصاتها إذا لزم الأمر، كما حدث يوم الثلاثاء الماضى عندما اعترض أفراد من الأمن الإدارى بمستشفى طب قصر العينى على تحرش أحد جنود الشرطة العسكرية بإحدى الممرضات لفظياً، فكان أن تدفقت سيارات الشرطة العسكرية على الحرم الجامعى للمستشفى وأخذ الجنود يطلقون النار للإرهاب وضربوا وسحلوا وقبضوا على عدد من العاملين. لقد تكسر الحلم وبقيت الأكذوبة، أكذوبة «الجيش والشعب إيد واحدة»، كما كان يردد الحالمون، فالمجلس العسكرى لم يكن يعبر عن مشاعره الحقيقية وهو يصف الشعب ب«العظمة»، والثورة ب«المجيدة»!. وعن الإخوان حدث ولا حرج، فلم تمض أيام على زوال المخلوع حتى شمروا عن ساعد الجد ليخدعوا الشعب فى استفتاء مارس الشهير- لحساب المجلس العسكرى- واستعانوا فى ذلك بالسلفيين، و«طرمخ» الطرفان على الإعلان الدستورى وبدأوا فى تثبيط همة الثوار عن تنظيم مليونيات، وبدلاً من الحديث عن الإصلاح السياسى والاقتصادى شرعوا فى الحديث عن موقفهم من البكينى فى السياحة وربا البنوك وفرض الحجاب ومنع الاختلاط بين الجنسين، هذا فى الوقت الذى كان يتم فيه «كسح» ثروات البلد لتهرّب إلى الخارج، وتنزل السلطة أشد العقاب بالشعب الذى تمرد على أسياده من خلال تعقيد حياته بالأزمات المعيشية المتتالية. وفى الوقت الذى كانت رصاصات القهر تسفح فيه دماء الشباب فى ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد ترك الإخوان وأتباعهم من السلفيين الدم الحرام يهدر من أجل حصد مقاعد مجلسى الشعب والشورى والتسلطن عليها، وما إن فرغوا حتى أخذوا فى إعداد العدة لالتهام باقى كعكة السلطة. لقد تكسر الحلم وبقيت الأكذوبة، أكذوبة أن الإخوان وأتباعهم من التيارات الإسلامية الأخرى كانوا ظهيراً للثورة، فالإسلاميون لم يعبروا عن مشاعرهم الحقيقية وهم يتحدثون عن الإصلاح وإنقاذ هذا البلد من الهوة التى يتردى فيها، بل كانوا يسعون منذ البداية إلى السلطة من أجل السلطة وليس من أجل الإصلاح!. والآن ماذا بقى من الأكاذيب؟ نعم هناك واحدة، أن نصدق أن شهر العسل بين الإخوان والعسكر قد انتهى وأنهم بدأوا رحلة الصدام، وأن نسلم بأن الملاسنات وحرب البيانات المتبادلة بينهما الآن تعبر عن خلاف حقيقى، وأن كل ما قيل عن وجود صفقة بينهما منذ الأيام الأولى للثورة لم يكن حقيقياً والدليل على ذلك التراشق اللفظى الحالى بين الطرفين. مطلوب منا أن نصدق أن الإخوان جاد فى إقالة حكومة «الجنزورى» وهم الذين تركوا الشباب يُذبح ويُسحل فى شوارع القاهرة أيام كان يطالب بذلك، علينا أن نصدق أن العناد بلغ بالإخوان مبلغاً دفعهم إلى اتهام المجلس العسكرى بوجود نية لديه لتزوير انتخابات الرئاسة المقبلة!. والأنكت من ذلك أن نصدق هذا البيان الملتهب الذى خرج عن المجلس وأكد فيه أنه حامى حمى النزاهة فى أى انتخابات تتم فى مصر، وأنه كما صان الانتخابات التشريعية من التزوير فسوف يحافظ على نظافة الانتخابات الرئاسية. علينا أن نصدق أن المجلس غضب لاتهامه بالتزوير وهو الذى اتهم بما هو أبشع من ذلك ولم يحرك ساكناً، ولم يحل بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بينه وبين ملكه وسلطانه!. الكذبة هذه المرة «ماسخة» والنكتة «بايخة»، ولم يعد فى جعبة المصريين مساحة لقبول أكاذيب جديدة بعد أن انكشف المستور لكل ذى بصر، وهو ما كان واضحاً من قبل لكل ذى بصيرة!.