اتخذ الرئيس مبارك قراره وحسم جدلاً استمر لسنوات، وطال أكثر مما ينبغى، باختيار الضبعة موقعاً لأول محطة لإنتاج الكهرباء فى مصر تعمل بالطاقة النووية. ولا جدال فى أنه قرار يستحق التحية، لأنه يعد انتصاراً لجماعات العلماء ولممثلى مؤسسات الدولة على جماعات من رجال الأعمال، أصرت على الخلط بين مصالحها الشخصية والمصالح الوطنية العامة، وراحت تستغل قربها من مواقع السلطة وتستخدم نفوذها داخل المطبخ السياسى لترجيح كفة مصالحها الشخصية على حساب المصالح العامة دون أى مراعاة للمصالح العليا للوطن، بما فى ذلك مصالحه الاستراتيجية والأمنية، من أجل أن تنتفخ جيوبها أكثر بالمال الحرام. قد ينطوى اختيار موقع الضبعة على تضحية بمصالح آنية أو عاجلة لبعض رجال الأعمال والمستثمرين القريبين من مراكز صنع القرار، لكنه لا يعنى، كما ذهب البعض، توجيه ضربة موجعة لمشروع التوريث، بل ربما يكون العكس هو الصحيح. فالقرار يعد، فى تقديرى، محاولة لإنقاذ مشروع التوريث، الذى يدرك الرئيس مبارك أنه يواجه صعوبات جمّة بسبب الرفض الشعبى المتصاعد له فى المرحلة الراهنة، وليس إضعافاً له، وذلك لأسباب عدة أهمها: 1- أن التخلى عن الضبعة كان سيفسر حتماً على أنه خضوع تام لرجال الأعمال المحيطين بجمال، وهو ما من شأنه زيادة الرفض الشعبى لمشروع التوريث. 2- أن التضحية مؤقتاً ببعض مصالح رجال الأعمال لن تضعف من تأييد مؤسسة رجال الأعمال ككل لمشروع التوريث لأنها لا تملك بديلا آخر، بل ربما تساعد على استعادة المنفلتين منهم بعض وعيهم المفقود والتقليل من خطورة مبادراتهم الجامحة أحياناً، والتى كثيراً ما تلحق الضرر بمشروع التوريث نفسه. 3- حاجة الرئيس مبارك فى اللحظة الراهنة للتأكيد على أنه مازال يمسك بالدفة بقوة، وحرصه فى الوقت نفسه على عدم إغضاب أو تهميش مؤسسات مهمة كانت تتابع الجدل الدائر حول الضبعة ببعض القلق، وتخشى من احتمال تجاوز نفوذ رجال الأعمال بعض الخطوط الحمر. وأيا كان الأمر.. فالقرار المشار إليه، والذى تأخر كثيراً وتسبب فى إهدار الكثير من الوقت، لا يعنى أن كل العقبات التى تعترض وجود برنامج نووى مصرى قد تم تذليلها. فالمحاولات الرامية لتقزيم هذا البرنامج، باختزاله فى مجموعة محطات «تسليم المفتاح»، لاتزال مستمرة فى وقت يتعين فيه أن تسعى مصر بكل ما أوتيت من قوة لإعادة بناء قدراتها البشرية فى مجال العلم والتكنولوجيا النووية واستيعاب المعرفة المتعلقة بهما من ألفها إلى يائها، وذلك فى حدود ما تسمح به التزامات مصر الدولية باعتبارها أحد الأطراف الموقعة على اتفاقية حظر الانتشار النووى. فى هذا السياق وحده، يتعين الترحيب بقرار الرئيس مبارك، باعتباره خطوة يمكن أن تسهم فى الإسراع ببدء إجراءات تنفيذ أول مفاعل نووى، وليس باعتباره ضربة موجهة لسيناريو التوريث، لكن يتعين أن نكون واعين ومدركين، فى الوقت نفسه، أنها لا تشكل سوى خطوة واحدة فى طريق الألف ميل. والسؤال: هل هذا النظام، بتركيبته الراهنة، لديه التصميم اللازم لقطع طريق الألف ميل بكامله؟ نشك كثيراً.