ما إن نشرت فضيحة طالب الثانوى الذى فاز بمسابقة نظمتها وزارة التعليم فى القصة القصيرة، ثم اتضح أنه لطشها بالحرف والفاصلة والنقطة من قصة جميلة للأديب شريف عبدالمجيد نشرت فى ملحق أهرام الجمعة، حتى انهالت علىّ رسائل القراء الأعزاء تلومنى وتشد أذنى لأننى اكتفيت بوصف الطالب باللص الصغير دون أن أنشر اسم الطالب وبياناته، ولم أبادر بتجريسه للمساهمة فى «القضاء على لص كبير فى المهد خاصة وبلادنا مبتلاة بالكثير من اللصوص الكبار الذين لم يجدوا من يجرسهم فى صغرهم»، بل واعتبرت رسائل كثيرة أن حجبى لاسم الطالب يجعلنى شريكا له فى الجريمة، فضلا عن رسائل أخرى استخدمت كلمات من نوعية اجتثاث واستئصال وقطع دابر وأشياء من هذا القبيل. لا تستطيع أن تلوم القراء الأعزاء على غيرتهم وحميتهم اللتين تستحقان التقدير، لكن أرجوك أن توصيهم بألا يلومونى بشدة لأننى قمت بتطبيق المعايير المهنية التى مازلت لحسن الحظ أذكر بعضها من أيام الدراسة فى كلية الإعلام، وهى المعايير التى لم تعد الصحافة المصرية المقروءة والمتلفزة تطبقها فى الغالب الأعم، حيث تحولت من وسيلة إعلام إلى سلطة إدانة، فهى، على سبيل المثال لا الحصر، تقوم فى أحيان كثيرة بنشر صور المتهمين وهم فى الشرطة والنيابة والقضاء، وتنشر أسماءهم الكاملة دون مراعاة لحقوقهم المدنية وحقوق أسرهم، متناسية القاعدة التى يحفظها كل طفل فى العالم، وهى أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته، وحتى لو كانت إدانته ثابتة مثل طالب الثانوى، فإن دورنا فضح ما قام به، لا فضح شخصه، والقضاء على فعلته، لا على حقوقه ومستقبله، خاصة أنه «حدث» والقانون يكفل للحدث معاملة خاصة تجعل من الواجب عدم الكشف عن شخصيته مهما كانت شناعة فعلته. لعلك تابعت فى الصحافة العالمية كيف انشغلت بريطانيا منذ شهر ونصف بقصة أصغر قاتلين فى تاريخها القضائى، ارتكبا جريمتى قتل شنيعتين وعمرهما لم يتجاوز العاشرة ! وصدرت بحقهما، منذ أكثر من عشرين سنة، أحكام رادعة، لكن نفس الأحكام تضمنت ضرورة تغيير شخصيتيهما خلال مدة أدائهما العقوبة وبعد خروجهما من السجن، وهو ما حدث بالفعل، وكلف الخزانة العامة مئات الآلاف من الجنيهات الإسترلينية، وشوف الإسترلينى بكام أصلا، واستمرت تلك الحماية حتى قام أحدهما بجريمة جديدة بعد خروجه من السجن، حيث قام بمراسلة موقع يقوم باستغلال الأطفال جنسيا، ليتم القبض عليه مجددا، وتدبير هوية جديدة له لكى يستمر المجتمع فى حمايته ويمنع تعرضه للانتقام من أهالى الضحايا، وكعادة أى مجتمع متحضر، لم أقرأ فى الصحف البريطانية إدانات تنصب المشانق لذلك المجرم الأثيم وتطالب باجتثاثه لأنه أصبح آفة يتعذر إصلاحها، (وإن كان رأيى شخصيا أنه يستحق الاجتثاث فكله إلا الأطفال)، بقدر ما قرأت صفحات مطولة تدين نظام الإصلاح الاجتماعى الذى يتعامل مع المجرمين خصوصا الأحداث منهم، وتلقى بالمسؤولية على المجتمع الذى يصنع مثل هذه الحالات الإجرامية المعقدة، وتفتح ملفات السجون التى تحولت إلى معامل لتحويل أرق المجرمين وأهونهم شأنا إلى غلاظ أكباد، تشيب من هول أفعالهم الولدان، وتوقفت مليا عند تحقيق مطول يستعرض نظام العدالة فى دولة النرويج وكيف تمكنت من دمج المجرمين الذين انتهت مدد أحكامهم فى المجتمع والاستفادة منهم ثانية بدلا من تدميرهم هم وأسرهم، خصوصا لو كانت جرائمهم بسيطة وغير مركبة، وكان هناك ما يوحى بأنهم تلقوا الدرس جيدا، وباتوا مستعدين لاستئناف الحياة من جديد، ليكسب المجتمع أفرادا صالحين والأهم أصحاب خبرة نافعة لغيرهم من الذين يشاورون عقولهم فى ارتكاب الجريمة.tأخذت أقرأ كل ذلك وأتحسر على حال بلادنا التى تستعذب تدمير حياة أبنائها وتستثقل مهمة إصلاحهم، بالله عليك كم من المرات فتحت الصحف لدينا ملفات إصلاحيات الأحداث والسجون وأوضاع المجرمين الذين أنهوا عقوباتهم وسددوا ديونهم للمجتمع والمعاملة الوحشية التى يتعامل بها المجتمع الذى يدعى التدين طيلة الوقت وينسى أن جوهر الدين هو الرحمة والعدل! لن أتحدث هنا عن أجهزة الدولة التى لا ترحم أساسا الأبرياء الماشيين جوه الحيط، سأذكرك بأن كل هذا نشرته الصحف آلاف المرات بل قدمته الأفلام والمسلسلات من أيام الأبيض والأسود، ولم يتحرك أحد لدراسته أو التعاطى معه بجدية، ولا أظن أحدا سيفعل إلا عندما نستيقظ لا قدر الله على جريمة مروعة ارتكبها محكوم سابق يئس من تدمير المجتمع لحياته وقرر أن يولع فى روحه وفى المجتمع بجاز. على أى حال، يبقى شكر واجب لوزارة التعليم التى أخبرنى الصديق شريف عبدالمجيد أن مسؤول الإعلام بها اتصل به فور النشر، وأخبره أن الوزارة قررت سحب الجائزة من الطالب الذى قدم اعتذارا عما حدث للوزارة، كما أخبر المسؤول شريف أنه سيسافر لأداء عمرة رمضان، وبعدها سيعود ليقوم بعمل جلسة بين شريف والطالب، وهو أمر، فضلا عن كونه فرصة درامية رائعة لشريف، فهو فرصة لكى يتلقى هذا الطالب درسا ينفعه فى حياته التى حاشا لله أن نصادر عليها، ولعله يكون أنفع لنفسه ولبلاده من كثيرين منا، شريف قال لى إنه سيطالب الوزارة بسحب القيمة المادية للجائزة من الطالب وشهادة التقدير ومنحها لطالب شارك فى المسابقة ويستحق الفوز، وأنا حبك معى الإفيه، فقلت لشريف، على شرط أن يقوم الطالب الفائز هذه المرة بتقديم أصل القصة التى نقلها منعا للغلبة، ثم استغفرت الله ودعوته أن تصل جوائز الوزارة دائما لمستحقيها من الطلبة الموهوبين الذين لن تعدم مصر إنجابهم. وسوست إلىّ نفسى (التى تلعب دور الشيطان باقتدار طيلة شهر رمضان) بأن أطلب من شريف أن يصور الطالب بالموبايل لكى أتفرج عليه ثم «أُدَلِّت» الصورة، لكننى ضربتها ثلاثين استعاذة بالله منها، ثم قلت لشريف أن يقول لمسؤول الوزارة عندما يلتقيه بعد عودته من العمرة المقبولة إننى أعتذر للوزارة عن تعبير «فضيحة فى وزارة التعليم» الذى استخدمته عند نشر القصة، لأننى كنت أعتقد أن الفضيحة تكمن فيما نشرته، ثم اتضح أن الفضيحة الحقيقية فيما سأنشره فى الغد إذا عشنا وكان لنا عمر. [email protected]