ذكر لنا القرآن الكريم معنى من معانى البكاء جديداً بالنسبة إلينا، وإن شئت فقل: معنى من المعانى الغائبة عنا، وما أكثر هذه المعانى الغائبة، التى بسبب غيابها تخلفت الأمة وازددنا من الله بعداً، ذلك المعنى هو البكاء على حالنا المتردى اقتصادياً، قال الله - تعالى - فى آية التوبة: «ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون». ولله در الزمخشرى حيث أبان الفرق بين قوله تعالى «وأعينهم تفيض من الدمع» وبين قول الناس: وأعينهم تفيض دمعاً، فقال إن تعبير القرآن أبلغ، حيث صور لنا الأعين قد صارت وكأنها فى بحار من الدمع تفيض فيه، يعنى كان البكاء غزيراً غزيراً، هؤلاء نفر من الصحابة جاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليحملهم معه فى غزوة تبوك، حين شدة الحر، وقلة النفقة، فلما قال لهم: لا أجد ما أحملكم عليه تولوا من عنده على تلك الحالة من البكاء الغزير، ومن يراجع السير يجد أن الصحابة القادرين - مثل العباس وعثمان - حملوا هؤلاء أى جففوا دموعهم بالفعل لا بالكلام، ونحن والحمد لله على كل حال لم نعرف هذا البكاء، وحالنا السيئة لا تخفى على أحد، على مستوى الفرد الذى يئن ولا يجد قوت عياله، وعلى مستوى الأمة التى تنتهك حرماتها ومقدساتها ومسجدها الأقصى، واندراجها فى ساقة الأمم، بل إن المدهش أننا نضحك ونتوسع فى الضحك، ونظن أن هذه عبقرية، فنحن أبناء النكتة، كلما اشتد بنا أمر من الأمور صنعنا منه نكتة، كأننا نخرج ألسنتنا للزمن وصروفه، ولا نبالى، وبدل أن ننفق الأموال على العلم الذى هو منقذنا من ظلمات ما نحن فيه ننفقها على الحفلات وغيرها، لدينا ميزانية لكل شىء إلا العلم، ولدينا الاستعداد للبكاء على كل شىء إلا البكاء على حالنا، لقد كان بكاء الصحابة بكاء تعبير عن حالة شوق للقاء أعداء الله، ولكن حالت الظروف دون هذا اللقاء، ما كان بكاؤهم فى صلاة التراويح كما نفعل، فالصلاة خشوع، ومعنى الخشوع السكون لا الحركة والاضطراب اللذان يثيرهما البكاء، وطبعاً ليس مطلوباً منا أن نبكى وإنما المطلوب أن نعمل حتى لا نبكى!
