مصر روح قوية، بلد قوتها فى روحها، روح مصر هى قدرتها على الصمود. منذ سقوط الاتحاد السوفيتى 1991، وانفراد أمريكا بالهيمنة على الشرق الأوسط، ومعاول التفكيك والتدمير تضرب مفاصل الدول، تساقطت دول، تفككت مجتمعات، ومازالت العملية مستمرة لم تصل إلى نهايتها بعد. نجحت مصر فى كافة اختبارات الإسقاط المتعمد وفازت بوحدة ترابها وتماسك نسيجها الاجتماعى فى محيط تم تخريبه من كافة الجهات. التحدى الذى يواجه مصر حتى نهاية القرن الحالى هو الاحتفاظ بذاتها موحدة متماسكة صلبة فى وجه العواصف، لأن كل ما حولها سوف يتوالى انقسامًا واحترابًا وتفككًا حتى نهاية القرن. لن تتبلور عراق جديدة، ولا سوريا جديدة، ولا ليبيا جديدة، ولا يمن جديدة، ولا سودان جديدة قبل نهاية القرن عند عام 2100 وقبله وبعده. المطلوب من مصر هو سياسة الأنفاس الطويلة، وتحمل سباقات المسافات البعيدة، دون أن تنحرف عن هدفها الأول والأخير وهو الخروج بنفسها وبشعبها سالمةً آمنةً، فلا تستهلك طاقتها فى غير ذلك، ولا يغريها التنافس مع الطامحين المستجدين فى الإقليم. مطلوب من مصر أن تحتفظ بقوة أعصابها وتمهل خطواتها وحذر قراراتها، لا تتدخل إلا بحساب، ولا تتورط لأى سبب كان. لأن القادم هو المزيد من البرك والأحراش والمستنقعات. مصر، منذ عرف التاريخ شيئًا اسمه التاريخ، ولها مصالح مشروعة إلى حيث تقع منابع النيل، كما لها مصالح مشروعة فى البحر الأحمر، هذه الصورة كانت أوضح ما تكون فى دماغ كل من محمد على باشا ثم حفيده إسماعيل، بلغ جهاد الرجلين ذروته 1869 - 1889 حيث انبسطت السيادة المصرية والحكم المصرى والإدارة المصرية لتفرد أجنحتها على جغرافيا إفريقية ضمت إلى مساحة مصر مساحات جديدة تزيد على مساحة فرنسا وألمانيا مجتمعتين، امتدت السيادة المصرية لتهيمن على جغرافيا النيل من المصب فى البحر حتى المنابع فى قلب مديرية خط الاستواء التى كانت تتمركز فيها إدارة مصرية وعسكرية مصرية وترفرف عليها أعلام السيادة المصرية. بعد ستين عامًا من ابتكار وخلق ورسم السودان الحديث قامت الثورة المهدية 1881، تقريبًا فى توافق زمنى مع الثورة العرابية، كانت لحظة عصبية فى تاريخ أسرة محمد على باشا: ثورة عرابية فى الشمال، ثورة مهدية فى الجنوب، ومثلما تم تشويه الثورة العرابية وعرابى واختصارها فى هوجة عرابى، تم كذلك تشويه ثورة المهدى فى فتنة المتمهدى أو النبى المزيف.. نستكمل غدًا.