.. ولماذا يبقى بيننا.. ؟!

لا أحب الرثاء.. ولا أحب أيضاً شهر فبراير.. فقد اقتلع هذا الشهر عينى.. خطف مجدى مهنا يوم الثامن منه عام 2008، ثم جلال عامر أمس!
سألت نفسى حين تلقيت خبر رحيل «عامر» الجميل: لماذا يخطف الموت النبلاء؟!.. يموت مجدى مهنا الصادق المناضل الذى قال للنظام الحاكم فى عينه «أنت أعور وفاسد ومستبد».. ويعيش من طبلوا وهللوا وخلعوا ملابسهم فى جوقة الحاكم؟!..
ما الحكمة من موت الزهور البريئة فى ميادين مصر.. وبقاء الجثث فى توابيت السلطة.. لماذا انفطر قلب جلال عامر وهو يحاول فض اشتباكات «مع وضد» صارخاً «المصريين بيضربوا بعض يا ناس».. بينما يسفك البعض دماء المواطنين بدم بارد؟!
سبحانك ربى.. أستغفرك وأتوب إليك.. ولكنك خلقتنى بعقل عاجز عن فهم حكمتك.. خلقتنى ضعيفاً أمام لحظة الفراق.. وخلقتنى محباً لكل حر، وعاشقاً لأى شريف ومناضل.. فلا تؤاخذنى إن ذرفت الدمع، أو حاد عقلى عن فهم حكمتك، أو نزف قلبى حزناً على من أحب..!
قرر جلال عامر الضاحك الباكى أن يترك من يحبونه ويذهب لمن يحب.. لم يتحمل قلبه المتعب المرهف مشهد المتظاهرين فى «بحرى - الإسكندرية» وهم يشتبكون خلافاً وصراعاً على جثة مصر..
صرخ بعبارته الخالدة، ثم سقط مغشياً عليه.. لم يفق بعدها، راح إلى حيث الراحة.. هناك - ليس بعيداً - مع شهداء الثورة، مع مجدى مهنا، ليروى له ما كان وما صار.. سيقول له حتماً: كان نفسى أبشرك يا مجدى.. كان نفسى أقولك إن الثورة التى حلمت بها نجحت وخلعت النظام بالكامل.. كان نفسى «أطمنك» على مصر.
. كان نفسى أرسم لك صورة جميلة لحياة جديدة.. كان نفسى - يا مجدى - أكمل المشوار .. ولكن قلبى خاننى، مثلما خان الجميع بلدهم..!
رأيت جلال عامر لآخر مرة يوم الأربعاء الماضى.. جاء مكتبى منهكاً حزيناً.. لم أره كذلك من قبل.. كان دائماً يطلق العبارات الساخرة بحكمة نادرة.. فى هذه المرة لم يفعلها.. كان شديد التوتر والقلق.. سألته فأجابنى «مصر بتضيع».
. جلس عدة دقائق وغادرنى مثلما التقانى.. سألته «متى سأراك فى القاهرة».. فالتفت مكسوراً «أنا راجع إسكندرية أشوف اللى بيحصل بين الناس.. أشوفك لما الناس تهدى شوية.. لما نحب مصر أكتر من مصالحنا.. السلام عليكم»..!
بصراحة.. لم أدرك أنه «مُتعب وجريح»، وإلا لما تركته يذهب.. عاد الرجل إلى معشوقته الإسكندرية ليحارب الفتنة، ولم لا وقد عاش عمره كله محارباً.. خاض معارك تحرير سيناء جندياً وضابطاً شجاعاً.. وسطَّر بقلمه الرائع معارك ضارية ضد الفساد والاستبداد.. عاد شاباً يافعاً ونضراً بعد نجاح ثورة 25 يناير فى خلع مبارك.. وارتد عجوزاً شاحباً حين حادت مصر عن ثورتها.. فلماذا يبقى بيننا..؟!
جلال عامر.. لم يكن مقاتلاً من أجل تراب مصر فحسب.. وإنما كان نموذجاً ل«المصرى» الذى تحتاجه مصر الآن.. مات لأننا نقرأه بمتعة، دون أن نعتنق شرف كلمته.. وتلك هى أزمة مصر الحقيقية.!
melgalad@almasry-alyoum.com