تكافح المرأة الفلسطينية في قطاع غزة في ظل حرب إبادة على مدار عام ونصف، وتستمر في تقديم الحياة، الدعم، المقاومة في حرب بقاء آخرى تقودها للدفاع عن شعبها وأهلها، وحسب الأممالمتحدة تعد الحرب الأكثر شراسة التي استهدفت النساء والأطفال الذين بقوا المتضرر الأول والضحية الأكبر للحرب المستمرة بلا هوادة، من هنا جاءت فكرتنا لتوثيق مقاومة المرأة في غزة والتي تتنوع وتختلف شكلها ولكن تبقى بطولة لا تضاهيها بطولة آخرى، تنشرها «المصري اليوم» عبر حلقات متتالية. بينما العالم يخطط لليوم التالي لحرب إبادة في غزة تقترب من العامين، يأمل سكان القطاع أنفسهم في العودة لليوم السابق للحدث ذاته، فما بين 6 أكتوبر 2023 واليوم، انقلبت حياة آلاء النجار الطبيبة الفلسطينية، الزوجة لشخص ناجح، والأم ل11 طفل، لتواجه اليوم ابنا وحيدا في الرعاية الطبية، وزوجا بين الحياة والموت في العناية المركزة، وشعب محاصر لا تجد له أضعف الإمكانيات لإنقاذ جرحاه من الموت. فقدت آلاء 9 من أبناءها الإحدى عشر بسبب القصف الإسرائيلي، بينما نحادثها أخبرتنا بانشغالها الشديد نظرًا لأنها تتابع بين 3 مستشفيات واحدة بها زوجها، وآخرى فيها ابنها، ومقر عملها الذي لم تنقطع عنه رغم كل هذه المأساة الكفيلة بتصدع جبل ربما كان سيتهدم من هول القصف غير المنتتهي. آلاء لا تغادر المستشفى، ليس لأنها في نوبة عمل، بل لأن ابنها آدم يرقد هناك، بين أنين المرضى وترددات الانفجارات. هو الناجي الوحيد من بين أحد عشر طفلًا أنجبتهم، تسعة منهم غيّبتهم ضربة واحدة، اثنان كانا توأمين، غادر أحدهما بعد ثلاثة أشهر من الحياة، والثانية لحقت بإخوتها في الحادث ذاته. حمزة، الذي قاوم في العناية المركزة تسعة أيام، استُشهد بعدها وكأنه قرر أن يرتاح. لكن الفقد لا يكتفي بالأبناء، زوج آلاء، رفيق عمرها، يرقد هو الآخر في مستشفى آخر، لا تفصله عنها سوى شوارع مهدمة ونقاط تفتيش ومخاوف لا تحصى، بين العناية المركزة في مستشفى الزوج، وغرفة آدم في المستشفى الإيطالي، تتمزق آلاء يوميًا، دون أن يسمح لها الزمن بالبكاء. تقول ل«المصري اليوم» إن البقاء نفسه معجزة كل شيء من حولها مهدد الكهرباء، والأدوية، والآسرة، والأمل تكتب وصفات طبية تعرف أن جزءًا منها غير متاح، وتحرص ألا تفرط في أي شريط دواء، لأن ما يزيد عندها قد ينقذ حياة مريض آخر لا تعرفه. إنها طبيبة في نظام صحي منهك، يحاول أن يصمد بينما تنهار الجدران فوق المرضى. ورغم كل شيء، لا تتحدث آلاء عن البطولة. تقول إن الله هو من يمنحها القوة. وإنها تفعل فقط ما بوسعها، لا أكثر، تؤمن أن الدعم النفسي أهم ما يمكن أن تقدمه لأطفالها، أو ما تبقى منهم، لأن ما لم يقتله القصف، قد يقتله اليأس. حرب إبادة ضد نساء غزة مأساة آلاء النجار لا تتجزأ من مأساة النساء في غزة الشاهدة على أكبر إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين، فبحسب وزارة الصحة الفلسطينية، نحو 13 ألفًا و901 امرأة في غزة فقدن أزواجهن ليصبحن أرامل، في حين أن 17 ألف أم فلسطينية فقدت أبناءها نتيجة القصف والعدوان، مما يزيد من حجم المعاناة النفسية والاجتماعية. الحياة أقسى من القصف، هكذا تصف آلاء اليوم بالنسبة لها في غزة، إحدى عشر طفلا جميعهم لإما قتلى لإما آخير يواجه الموت وحتى مع الأمل البسيط في بقاءه على قيد الحياة فإن لا شيء مؤكد، فأي قسوة تواجهها أسرة كاملة بهذا العدد وفي هذا التوقيت الصغير من الأيام المتتالية من فقدان الأمل. آلاء النجار ليست فقط طبيبة في زمن الحرب، بل هي أيضًا قصة كاملة عن ما تعنيه الأمومة تحت الحصار، وما يعنيه الحب حين يُحاصر بين جدران العناية المركزة، وما يعنيه الصمود حين تكون كل عناصر الحياة ضدك، ومع ذلك تنهض، وتتنفس، وتداوي الآخرين. آلاء لم تكن فقط أمًّا لأطفالها، تقول:«كنت ملاذًا نفسيًا لهم، أزرع فيهم ما استطعت من أمل، حتى لو لم تستطع أن تقدم لهم الغذاء الكامل أو العلاج الأمثل، تقول إن الأم في غزة، قبل أن تكون مربية أو طاهية أو حتى طبيبة، يجب أن تكون سارية أمان. الدعم النفسي صار الرافعة الوحيدة الممكنة. لكن الحياة في غزة لا تسمح بالكثير، الحصار الإسرائيلي المستمر منذ سنوات، والقصف المتكرر، دمّرا كل ما هو أساسي في المنظومة الصحية، النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية يحوّل العمل اليومي إلى معركة للبقاء، تكتب آلاء وصفة دوائية، وهي تدرك أن الدواء قد لا يكون موجودًا أصلًا، تحاول أن تكون دقيقة، فلا تصف إلا ما هو ضروري، لأن ما يُصرف لمريض قد يحرم آخر من حق في الشفاء، تتعامل مع النُدرة كأنها قانون حياة، تمارس الطب بشيء من التقشف العادل، ووعي مؤلم بأن لكل شيء ثمنًا في زمن الحرب. القصف لا يتوقف، المستشفى ذاته ليس بمنأى عن الخطر، لكن آلاء تشير إلى أنه المساحة الوحيدة التي بقيت لها ولابنها، تشعر أحيانًا أن جدرانه تحميها من الانهيار، وأن رائحة المطهرات تغلب على رائحة الحزن، ولو مؤقتًا. كل لحظة تمر تحمل معها احتمال فقد جديد، لكنها لا تسمح لنفسها بالسقوط. تمضي في اليوم التالي كما مضت في السابق، بأقل قدر من الطعام، وجرعات قليلة من النوم، والكثير من الدعاء.