حيثيات «الإدارية العليا» لإلغاء الانتخابات بدائرة الدقي    وزيرتا التنمية المحلية والتضامن ومحافظ الغربية يتفقدون محطة طنطا لإنتاج البيض    تعرف على مشروع تطوير منظومة الصرف الصحي بمدينة دهب بتكلفة 400 مليون جنيه    نائب محافظ الجيزة وسكرتير عام المحافظة يتابعان تنفيذ الخطة الاستثمارية وملف تقنين أراضي الدولة    إما الاستسلام أو الاعتقال.. حماس تكشف سبب رفضها لمقترحات الاحتلال حول التعامل مع عناصر المقاومة في أنفاق رفح    الجامعة العربية تحتفى باليوم العالمى للتضامن مع الشعب الفلسطينى    شبكة بي بي سي: هل بدأ ليفربول حياة جديدة بدون محمد صلاح؟    إبراهيم حسن يكشف برنامج إعداد منتخب مصر لأمم أفريقيا 2025    وادى دجلة يواجه الطلائع ومودرن سبورت وديا خلال التوقف الدولى    الأهلي أمام اختبار صعب.. تفاصيل مصير أليو ديانج قبل الانتقالات الشتوية    أحمد موسى: حماية الطفل المصري يحمي مستقبل مصر    حكم قضائي يلزم محافظة الجيزة بالموافقة على استكمال مشروع سكني بالدقي    خطوات تسجيل البيانات في استمارة الصف الثالث الإعدادي والأوراق المطلوبة    الثقافة تُكرم خالد جلال في احتفالية بالمسرح القومي بحضور نجوم الفن.. الأربعاء    مبادرة تستحق الاهتمام    مدير وحدة الدراسات بالمتحدة: إلغاء انتخابات النواب في 30 دائرة سابقة تاريخية    انطلاق فعاليات «المواجهة والتجوال» في الشرقية وكفر الشيخ والغربية غدًا    جامعة دمنهور تطلق مبادرة "جيل بلا تبغ" لتعزيز الوعي الصحي ومكافحة التدخين    أسباب زيادة دهون البطن أسرع من باقى الجسم    مصطفى محمد بديلا في تشكيل نانت لمواجهة ليون في الدوري الفرنسي    رئيس الوزراء يبحث مع "أنجلوجولد أشانتي" خطط زيادة إنتاج منجم السكري ودعم قطاع الذهب    هل تجوز الصدقة على الأقارب غير المقتدرين؟.. أمين الفتوى يجيب    "وزير الصحة" يرفض بشكل قاطع فرض رسوم كشف على مرضى نفقة الدولة والتأمين بمستشفى جوستاف روسي مصر    محافظ جنوب سيناء يشيد بنجاح بطولة أفريقيا المفتوحة للبليارد الصيني    أمينة الفتوى: الوظيفة التي تشترط خلع الحجاب ليست باب رزق    وزير العدل يعتمد حركة ترقيات كُبرى    «بيت جن» المقاومة عنوان الوطنية    بعد تجارب التشغيل التجريبي.. موعد تشغيل مونوريل العاصمة الإدارية    عبد المعز: الإيمان الحقّ حين يتحوّل من أُمنيات إلى أفعال    استعدادًا لمواجهة أخرى مع إسرائيل.. إيران تتجه لشراء مقاتلات وصواريخ متطورة    دور الجامعات في القضاء على العنف الرقمي.. ندوة بكلية علوم الرياضة بالمنصورة    الإحصاء: 3.1% زيادة في عدد حالات الطلاق عام 2024    الصحة العالمية: تطعيم الأنفلونزا يمنع شدة المرض ودخول المستشفى    الرئيس السيسي يوجه بالعمل على زيادة الاستثمارات الخاصة لدفع النمو والتنمية    وزير التعليم يفاجئ مدارس دمياط ويشيد بانضباطها    من أول يناير 2026.. رفع الحدين الأدنى والأقصى لأجر الاشتراك التأميني | إنفوجراف    وزير الخارجية يسلم رسالة خطية من الرئيس السيسي إلى نظيره الباكستاني    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لتطوير المناطق المحيطة بهضبة الأهرامات    إعلان الكشوف الأولية لمرشحي نقابة المحامين بشمال القليوبية    موعد شهر رمضان 2026 فلكيًا.. 80 يومًا تفصلنا عن أول أيامه    وزير الثقافة يهنئ الكاتبة سلوى بكر لحصولها على جائزة البريكس الأدبية    رئيس جامعة القاهرة يستقبل وفد جودة التعليم لاعتماد المعهد القومي للأورام    الإسماعيلية تستضيف بطولة الرماية للجامعات    وزير الإسكان يتابع تجهيزات واستعدادات فصل الشتاء والتعامل مع الأمطار بالمدن الجديدة    دانيلو: عمتي توفت ليلة نهائي كوبا ليبرتادوريس.. وكنت ألعب بمساعدة من الله    ضبط 846 مخالفة مرورية بأسوان خلال حملات أسبوع    تيسير للمواطنين كبار السن والمرضى.. الجوازات والهجرة تسرع إنهاء الإجراءات    مصطفى غريب: كنت بسرق القصب وابن الأبلة شهرتى فى المدرسة    شرارة الحرب فى الكاريبى.. أمريكا اللاتينية بين مطرقة واشنطن وسندان فنزويلا    صندوق التنمية الحضرية : جراج متعدد الطوابق لخدمة زوار القاهرة التاريخية    وزير الخارجية يلتقي أعضاء الجالية المصرية بإسلام آباد    صراع الصدارة يشتعل.. روما يختبر قوته أمام نابولي بالدوري الإيطالي    إطلاق قافلة زاد العزة ال83 إلى غزة بنحو 10 آلاف و500 طن مساعدات إنسانية    اتحاد الأطباء العرب يكشف تفاصيل دعم الأطفال ذوي الإعاقة    تعليم القاهرة تعلن خطة شاملة لحماية الطلاب من فيروسات الشتاء.. وتشدد على إجراءات وقائية صارمة    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 30نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا.... اعرف مواعيد صلاتك بدقه    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للتدريب المشترك « ميدوزا - 14»    مركز المناخ يعلن بدء الشتاء.. الليلة الماضية تسجل أدنى حرارة منذ الموسم الماضى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد محمود السيد يكتب: سرديات جدلية: الدلالات الدينية والسياسية لتسميات الحروب الإسرائيلية
نشر في المصري اليوم يوم 04 - 05 - 2025

على الرغم من أن حروب التاريخ تحمل أسماءً مميزة، أو حتى يتم ربطها بتواريخ محددة؛ فإن تسمية الحروب والعمليات العسكرية، بشكل نظامى، تُعد ممارسة حديثة نسبيًا. وتُمارس إسرائيل بدورها هذا الأمر منذ عام 1948، ومع تعدد حروب إسرائيل وعملياتها العسكرية، أصبح هناك عوامل يمكن أن تُفسِّر كيفية قيام إسرائيل بتسمية حروبها وعملياتها العسكرية.
مدخل تاريخى:
رأى الباحث الأمريكى فى العلاقات الدولية، بيتر دبليو سينغر، أنه حتى القرن العشرين كان هناك عدد من الاتجاهات لتسمية الحروب التاريخية؛ أبرزها تسمية الحرب باسم المكان الذى اندلعت فيه، مثل حرب شبه جزيرة القرم (1853-1856)، والحرب الكورية (1950-1953). كذلك تسمية بعضها باسم الأطراف المتحاربة، مثل الحرب الأمريكية الإسبانية (1898)، والحرب الروسية اليابانية (1904-1905). وكانت هناك حروب تتم تسميتها باسم جانب واحد من المتحاربين، وغالبًا ما يكون اسمًا مميزًا، مثل حرب الماو ماو (1952-1956)، وحرب البوير (1899-1902).
وهناك أيضًا اتجاه بارز فى تسمية الحروب التاريخية وفقًا لتاريخ بدايتها، مثل حرب عام 1812 بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ومستعمراتها فى أمريكا الشمالية، وكذلك حرب السادس من أكتوبر 1973 (حرب «عيد الغفران» وفق التسمية الإسرائيلية). وهناك حروب تمت تسميتها بحسب فترة استمرارها، مثل حرب المئة عام (1337-1453)، وحرب الثلاثين عامًا (1618-1648)، وحرب يونيو 1967 (حرب «الأيام الستة» وفق التسمية الإسرائيلية). وأخيرًا هناك حروب سُميت بأسماء رمزية إسقاطًا على بعض مشاهد الحرب أو فصولها، مثل حرب البرتقال (1801)، وحروب الموز (1898-1934)، وحرب أذن جينكينز (1739-1743).
ومن اللافت أن هناك بعض الحروب التى تغيرت أسماؤها التاريخية فى مراحل لاحقة، مثل الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، والتى عُرفت فى الفترة ما بين الحربين ب«الحرب العظمى»، ولكن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، صارت الحرب الأولى فى سلسلة الحروب العالمية.
ومع تطور الحروب فى القرن العشرين، بدأت الدول والأطراف المتحاربة فى تسمية الحروب والمعارك العسكرية، كممارسة نظامية، سواء تم ذلك فى بداية المعارك أم أثناءها أم فى مراحل لاحقة بعد انتهائها. وقد تحدّث عن ذلك الأمر تفصيلًا الضابط الأمريكى غريغورى سى. سيمنسكى، فى دراسته «فن تسمية العمليات» (The Art of Naming Operations)، المنشورة عام 1995 فى مجلة (Parameters) التابعة للجيش الأمريكى، حيث ذكر سيمنسكى أن ممارسة تسمية المعارك نشأت مع الجيش الألمانى فى الحرب العالمية الأولى، وذلك كوسيلة للتمييز بين العمليات المتعاقبة، وللحفاظ على الأمن التشغيلى لتلك العمليات.
وخلال الحرب العالمية الثانية، ومع اتساع جبهات القتال وتزايد عدد العمليات العسكرية بشكل كبير؛ كانت هناك حاجة أكبر لتمييز المعارك والعمليات العسكرية، فتوصلت هيئة الأركان المشتركة الأمريكية ووزارة الحرب إلى «فهرس أسماء كودية سرية»، يُوفِّر عشرة آلاف اسم وصفة يمكن إطلاقها على المعارك والعمليات، وقد تجنّبوا الأسماء الصحيحة للمواقع الجغرافية والسفن.
كذلك كان ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطانى خلال الحرب العالمية الثانية، مفتونًا بالأسماء الرمزية للمعارك، وبعد أن صادف العديد من الأسماء الرمزية التى اعتبرها غير مناسبة، ذهب إلى حد إصدار تعليمات لأحد مساعديه بتقديم جميع الأسماء الرمزية المستقبلية له للموافقة عليها. ورأى تشرشل أنه لا ينبغى وصف العمليات التى قد يفقد فيها عدد كبير من الرجال حياتهم بكلمات رمزية تنطوى على مشاعر التفاخر أو الثقة المفرطة، ولا ينبغى أيضًا إطلاق مُسميات تُضفى جوًا من اليأس على الخطة، أو وضع أسماء ذات طابع تافه. وأطلق تشرشل على عملية «نورماندى» (D-Day invasion of Normandy)، فى السادس من يونيو 1944، اسم «عملية أوفرلورد» (Operation Overlord)، بعدما كان من المفترض أن يُطلق عليها أسماء أخرى، مثل «المطرقة الثقيلة» و«المطرقة المستديرة».
وجاء التطور التالى فى هذا الصدد على يد الجنرال الأمريكى، دوغلاس ماك آرثر، الذى قاد القوات الأمريكية فى الحرب الكورية، فكان أول قائد عسكرى يسمح بكشف أسماء العمليات السرية ونشرها فى الصحافة بمجرد بدء العمليات، بدلًا من الانتظار حتى نهاية الحرب؛ وذلك بغرض تعزيز الروح المعنوية لقواته، ومحاولة التأثير فى تصورات العدو للحرب. وفى عام 1975، أنشأ الجيش الأمريكى نظام كمبيوتر يُسهِّل عملية اختيار وتنسيق استخدام أسماء العمليات العسكرية، وأُطلق عليه نظام (NICKA)، لكن فى بعض الأحيان تجاهل القادة الأمريكيون اختيارات النظام، ووضعوا أسماءً أخرى لعملياتهم العسكرية؛ فكان من المفترض أن يُطلق على عملية الولايات المتحدة فى بنما عام 1989 اسم «الملعقة الزرقاء»، بيد أنه تم تغييرها إلى «القضية العادلة».
بشكل عام، يمكن القول إن هناك أربعة مبادئ رئيسية ظهرت خلال القرن العشرين، ونظمّت تسمية الحروب والمعارك العسكرية؛ أولها هو التركيز على أن يكون الاسم ذا معنى ودلالة قوية وواضحة تؤسس لسردية الطرف الذى تبنّى هذا الاسم. وثانى المبادئ ارتبط بتحديد الجمهور المستهدف من هذه التسمية، وهو ما ترتّب عليه أحيانًا وجود أسماء رمزية للحروب تختلف عن مُسماها الإعلامى، فضلًا عن اختلاف الاسم عند ترجمته من لغة إلى ثانية، وهو أمر ظهر كثيرًا فى الممارسة الإسرائيلية، حيث أُطلق على حرب غزة فى يوليو 2014 مُسمى «الجرف الصامد» باللغتين العبرية والعربية، لكن عند ترجمتها إلى الإنجليزية صارت (Protective Edge) أى «الحافة الواقية». والمبدأ الثالث هو الابتعاد عن نمط التسميات الذى قد يتمتع بشعبية مؤقتة؛ ومن ثم يفقد زخمه مع تقدم الوقت. وهو أمر يرتبط بالمبدأ الرابع، الذى يُركز على جعل اسم الحرب لا يُنسى.
جدل إسرائيلى:
تُعد «وحدة الحرب النفسية» فى الجيش الإسرائيلى هى المسؤولة عن اختيار الاسم الذى يتم إطلاقه على أى عملية عسكرية، وتختلف المُسميات وفقًا لطبيعة العملية، وسقفها الزمنى الذى تحدده القيادتان السياسية والعسكرية. وفى بعض الحالات التاريخية، أسهمت القيادة السياسية فى تسمية الحروب، خاصةً تلك التى تمت تسميتها فى مراحل لاحقة بعد انتهائها.
وغالبًا ما يتم توليد أسماء العمليات العسكرية، إمّا عن طريق نظام إلكترونى مشابه للنظام الأمريكى التى سبقت الإشارة إليه، أو عن طريق عسكريين داخل الجيش الإسرائيلى. ففى يوليو 2014، إبان حرب غزة آنذاك التى أطلقت عليها إسرائيل اسم «الجرف الصامد»، صرّح أفيخاى أدرعى، رئيس قسم الإعلام العربى فى وحدة الناطق باسم الجيش الإسرائيلى، بأن «أسماء العمليات يتم اختيارها من خلال الحاسوب، وأحيانًا من خلال أشخاص»، مشيرًا إلى أن الجيش خلال مرحلة اختيار الاسم «يجرى فحصًا لمدى ملاءمته مع الرأى العام الإسرائيلى والدولى».
وفى بدايات الحرب على غزة فى أكتوبر 2023، والتى أطلقت عليها إسرائيل اسم «السيوف الحديدية»، تحدثت تقارير عن أن المتحدث السابق باسم الجيش الإسرائيلى، دانييل هاغارى، اختار هذا الاسم من بين مجموعة من الأسماء التى كان الجيش قد قام بتوليدها بشكل مُسبق. وقد صرّح المتحدث الأسبق باسم الجيش الإسرائيلى، ران كوخاف، والذى تولّى المنصب فى الفترة (2021-2023)، بأنه هو منْ توصل إلى هذا الاسم قبل أن يغادر منصبه فى إبريل 2023؛ أى قبل الحرب، لكنه أشار إلى أن هذا الاسم كان يتناسب أكثر مع عملية عسكرية محدودة تستغرق يومين أو ثلاثة أيام، وليس حربًا طويلة، ورأى أنه تم «سحب اسم هذه الحرب من الدرج الخاطئ». ولم تكن تصريحات كوخاف حول «السيوف الحديدية» سوى بداية لجدل استمر طويلًا حول هذا الاسم، وهو جدل تاريخى، غالبًا ما كان ينشب مع كل حرب كبيرة فى إسرائيل. ففى ديسمبر 2023، ذكرت تقارير أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو غير راضٍ عن الاسم الرسمى الذى أطلقه الجيش على حرب غزة، ورأى أنه «غير مناسب وغير كافٍ لعملية عسكرية»، ودفع نحو تغييره، واستبداله بمُسمى «حرب التكوين». وفى أكتوبر 2024، وبعد مرور عام على نشوب الحرب على غزة، جدّد نتنياهو رغبته فى تغيير مسماها، مقترحًا اسمًا جديدًا وهو «حرب الإحياء – تكوما»، ولكن معارضة بعض الوزراء لهذا الاسم، وإعراض الجيش والرأى العام عن مناقشة هذا الأمر، حالا دون تغيير مُسمى الحرب.
وبرّر نتنياهو رغبته فى تغيير اسم الحرب بأنها «حرب وجودية» وتستحق اسمًا أفضل، فيما رأى البعض أن نتنياهو يحاول رسم صورة مُصمَّمة بعناية للإرث الذى سيتركه خلفه، فالحديث عن حرب وجودية ربما يجعل الإسرائيليين مستقبلًا يتناسون الفشل الاستراتيجى والعسكرى الذى مُنيت به البلاد فى عهد نتنياهو فى السابع من أكتوبر، وقد رأى نتنياهو أن تغيير الاسم هو إحدى الخطوات المهمة فى هذا الصدد.
وتاريخيًا، كانت تسمية الحروب فى إسرائيل عملية جدلية، وبدأ هذا الجدل منذ حرب عام 1948، وهى الحرب المعروفة عربيًا ب«النكبة»، وإسرائيليًا ب«حرب الاستقلال». فبعد سنوات من هذه الحرب كان رئيس الوزراء الإسرائيلى حينئذ، ديفيد بن غوريون، يُطلق عليها «حرب الانتفاضة» أو «حرب النهوض»، لكن مُسمى «حرب الاستقلال» هو ما ظلّ مستقرًا تاريخيًا فى إسرائيل. والجدل الأكبر، الذى كان المجتمع الإسرائيلى جزءًا منه، ظهر فى حرب لبنان الأولى عام 1982، وهى الحرب التى عارضتها شرائح كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلى، ورأى المؤرخون هناك أنها كانت أول حرب لأغراض هجومية استيطانية، وليست حربًا دفاعية مثلما سبقها من حروب، من وجهة نظرهم. ولكى تنفى الحكومة الإسرائيلية آنذاك هذه الفرضية، أطلقت على تلك الحرب - والتى تصوّر القادة الإسرائيليون أنها ستكون موجزة- اسم «السلام من أجل الجليل». بيد أن المجتمع الإسرائيلى رفض هذا المُسمى، اعتراضًا على منطق وسبب الحرب من الأساس؛ لدرجة أن أُسر بعض الضباط الإسرائيليين الذى لقوا حتفهم فى هذه الحرب كتبوا على مقابرهم أنهم سقطوا فى «حرب لبنان» وليس «السلام من أجل الجليل».
واستمر ذلك الجدل حتى اندلاع حرب لبنان الثانية فى يوليو 2006، والتى أطلق الجيش على عملياته خلالها مُسميات «المكافأة العادلة» و«تغيير الاتجاه»، لكن بعد سبعة أشهر من انتهائها قامت اللجنة الوزارية للطقوس والرموز، التى كلفها وزير الدفاع آنذاك، عمير بيريتس، بقياس مشاعر وسائل الإعلام والجمهور، وبناءً على تقريرها تبنّى الجيش الإسرائيلى رسميًا مُسمى «حرب لبنان الثانية»، فى اعتراف بأن حرب 1982 كانت «حرب لبنان الأولى».
وخلال الحرب على غزة، التى اندلعت فى يوليو 2014، كان العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية رافضة للتسمية الرسمية للحرب «الجرف الصامد»، وعمد البعض إلى استبدال هذا المُسمى ب«حرب غزة». وجاء هذا الأمر فى ضوء الخسائر غير المتوقعة والكبيرة التى مُنى بها الجيش الإسرائيلى آنذاك، والتى كانت غير متناسبة مع مُسمى الحرب، من وجهة نظر الرأى العام فى تل أبيب.
دلالات إسرائيلية:
من خلال تحليل مُسميات حروب إسرائيل وعملياتها العسكرية منذ عام 1948، يمكن القول إن هناك أربع دلالات رئيسية لهذه المُسميات، وهى كالتالى:
1- طغيان البُعد الدينى: تُعد الرمزية الدينية مكوّنًا أساسيًا من مكونات الواقع السياسى والعسكرى فى إسرائيل حاليًا، وهو أمر يتصاعد كلما زاد حضور المتدينين فى الحياة السياسية. ولم تكن مُسميات الحروب بمنأى عن تلك الرمزية؛ بل كانت تاريخيًا التجسيد الأكبر والأبرز لها، حيث تقول داليا غافريلى نورى، الباحثة بجامعة بار إيلان فى إسرائيل، فى خلاصة بحثها حول هذا الأمر: «إن ما يقرب من نصف العمليات العسكرية الإسرائيلية على مدى تاريخها له جذور توراتية».
وهذه المُسميات الدينية تتم دراستها بعناية قبل أن تخرج إلى النور، وتُصمَّم بحيث تكون مُحركًا للجنود الإسرائيليين فى مهامهم العسكرية. فقد حمل مُسمى «حرب الأيام الستة» عام 1967 صدى توراتيًا يتعلق بالأيام الستة للخلق. وتمسكت إسرائيل بإطلاق مُسمى «حرب يوم الغفران» على حرب أكتوبر 1973، فى إشارة إلى أن إسرائيل هُوجمت فى اليوم الأكثر قدسية فى التقويم اليهودى.
وحديثًا، أطلقت إسرائيل على حرب غزة عام 2012، اسم «عمود السحاب»؛ وهو مُسمى يحمل إشارة توراتية. كما أن مُسمى «سهم باشان»، الذى أطلقته إسرائيل على عمليتها العسكرية فى سوريا فى ديسمبر 2024، هو اسم مُستوحى من التوراة ويشير إلى المنطقة الواقعة جنوبى سوريا.
2- دلالات رمزية وقومية: يرى الكاتب اليهودى الشهير فيلولوغوس، فى إحدى مقالاته بموقع «موزاييك»، أن الإسرائيليين يميلون إلى رفض الأسماء الرمزية العسكرية، ومع ذلك فإنهم يتبنونها فى بعض العمليات المحدودة. ففى أغسطس 2022، أطلق الجيش الإسرائيلى على عمليته ضد «حركة الجهاد الإسلامى» فى غزة مُسمى «الفجر الصادق»، فى إشارة إلى أن «الفجر الذى سيجلبه الجيش الإسرائيلى سيخفى سواد رايات الفصائل الفلسطينية»، وفق ما نشره الجيش الإسرائيلى فى بيانه حول العملية. كذلك جاءت العملية العسكرية الإسرائيلية ضد لبنان عام 2024، تحت مُسمى «السهام الشمالية»، وهو اسم يشير إلى عملية محدودة؛ بالنظر إلى أن السهام تُطلق من مسافات بعيدة، واتجاه الشمال هو صوب حزب الله، خاصةً أن الجيش الإسرائيلى أطلق عليها رسميًا «عملية» وليست «حربًا».
وبالتوازى مع ذلك، مال الجيش الإسرائيلى فى بعض الأحيان إلى تبنى مُسميات لعملياته العسكرية، تحمل دلالات قومية؛ حيث أطلق على حرب غزة (ديسمبر 2008 – يناير 2009) مُسمى «الرصاص المصبوب»، والذى جاء من قصيدة للشاعر اليهودى، حاييم ناحمان بياليك (1873-1934)، والتى يغنيها الأطفال فى عيد «حانوكا» اليهودى؛ حيث وصف فى قصيدته أن لعبة «الدريدل» التقليدية التى يلعب بها الأطفال فى عيد «حانوكا» كانت مصنوعة من الرصاص المصبوب. وقد انطلقت العملية الإسرائيلية تزامنًا مع أعياد حانوكا فى ديسمبر 2008.
كذلك نجد أن مُسمى عملية «حارس الأسوار»، التى انطلقت فى مايو 2021، مُستوحى من اسم أُغنية عبرية قديمة، كُتبت على لسان جندى إسرائيلى «واصفًا ذكرياته وأحلامه بأن يكون حارسًا لأسوار القدس العتيقة». وأخيرًا، نجد أن مُسمى «السور الحديدى»، وهو اسم العملية التى أطلقها الجيش الإسرائيلى فى الضفة الغربية فى يناير 2025، مُستلهم من مصطلح «الجدار الحديدى»، الذى وضعه زئيف جابوتنسكى، مؤسس وزعيم الحركة التصحيحية الصهيونية، عام 1923، وفيه تحدث عن ضرورة تنفيذ المشروع الصهيونى خلف جدار من حديد يعجز السكان العرب المحليون عن هدمه.
3- مواجهة الرواية والمُسميات الفلسطينية: فى دراسة منشورة فى نوفمبر 2024، بمجلة (Perspectives on Global Development and Technology) التابعة لقاعدة «بريل» للنشر الدولى، تحت عنوان «ممارسات الفصائل الفلسطينية فى التسميات العسكرية استجابةً للغارات والاعتداءات الإسرائيلية»؛ تستنتج مجموعة من الباحثين الفلسطينيين أن الفصائل الفلسطينية استخدمت بمهارة مُسميات عملياتها العسكرية، فى إطار استراتيجية لغوية محددة، للتأثير فى التصورات العربية والدولية للحرب وكسب الدعم لأنشطتها. وتؤكد الدراسة أن تلك المُسميات يتم تصميمها بعناية لنقل رسائل محددة وتوسيع معنى قدراتها العسكرية. فى المقابل، كانت إسرائيل تُركّز على مواجهة المُسميات الفلسطينية بأخرى مضادة، ليس لدحض الرواية الفلسطينية فقط، لكن أيضًا لبث الرعب والخوف فى نفوس الفلسطينيين.
لذلك نجد عملية «الرصاص المصبوب» (ديسمبر 2008 - يناير 2009) فى مواجهة التسمية الفلسطينية «معركة الفرقان»، وعملية «عمود السحاب» (نوفمبر 2012) فى مواجهة «حجارة السجيل»، وعملية «الجرف الصامد» (يوليو 2014) فى مواجهة «العصف المأكول»، وعملية «حارس الأسوار» (مايو 2021) فى مواجهة «سيف القدس»، وعملية «الفجر الصادق» (أغسطس 2022) فى مواجهة «وحدة الساحات»، وأخيرًا عملية «السيوف الحديدية» (أكتوبر 2023) فى مواجهة «طوفان الأقصى».
4- بناء السردية الإسرائيلية الخاصة: تُدرك إسرائيل أن تحقيق النجاح فى الحروب والعمليات لا يتوقف فقط على القوة العسكرية والمناورات التكتيكية، لكن أيضًا على كيفية إدراك الجانب الآخر لقوتك ومنطق تحركاتك؛ ومن ثم حاولت إسرائيل من خلال مُسميات حروبها وعملياتها العسكرية التأثير فى العوامل النفسية والإدراكية للأطراف المواجهة لها. ففى حرب يونيو 1967، وبجانب الصدى التوراتى لمُسمى «حرب الأيام الستة»، فإنه عكَس، من وجهة نظر إسرائيل، نجاحًا عسكريًا فى إنهاء أهداف الحرب فى ستة أيام فقط. وكذلك حاولت إسرائيل تبرير حربها على لبنان عام 1982، خاصةً للداخل، من خلال إطلاق مُسمى «السلام من أجل الجليل»؛ وذلك لإنكار فكرة الاعتداء من جانبها. وفى عام 2002 حينما أطلقت إسرائيل على عمليتها العسكرية الأكبر فى الضفة الغربية مُسمى «الدرع الواقى»، كانت تحاول تأكيد رغبتها فى إعادة السيطرة على المراكز السكانية الرئيسية فى الضفة لتحييد الفصائل الفلسطينية هناك.
إجمالًا، يمكن القول إن تسمية الحروب والعمليات العسكرية الإسرائيلية منذ عام 1948، تحمل تقاليد دينية ورمزية وقومية. ومع زيادة عدد هذه العمليات، وذيوع مُسمياتها بين مختلف وسائل الإعلام، وفى ضوء الجدل الذى دار مؤخرًا حول مُسمى حرب «السيوف الحديدية»؛ ربما نجد اختلافًا مستقبليًا فى إجراءات تسمية الحروب، وربما تؤدى القيادة السياسية فى تل أبيب دورًا أكبر فى اختيار تلك الأسماء والترويج لسرديتها الخاصة.
* نائب رئيس تحرير دورية اتجاهات الأحداث
ينشر بالتعاون مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.