لقد غيرت الحرب الروسية- الأوكرانية فى فبراير (شباط) 2022 معطيات المعادلة الأمنية الإقليمية والدولية، وأثارت مخاوف من إمكانية حرمان جنوب القوقاز من السيادة والسلامة الإقليمية، إذ تشهد منطقة جنوب القوقاز- المنطقة التى كانت على مفترق طرق لمصالح القوى العظمى عدة قرون- تحولًا سريعًا، فلم تؤدِ الحرب التى دخلت عامها الرابع إلى تعميق التوترات القائمة فحسب؛ بل أثرت أيضًا فى تصورات المجتمع الدولى وسياساته فيما يتصل بتلك المنطقة؛ ما قد يجبر البلدان الثلاثة التى تشكل منطقة جنوب القوقاز (جورجياوأرمينياوأذربيجان) على إعادة تنظيم آفاق سياساتها الخارجية. سياسات دول جنوب القوقاز تجاه الحرب الروسية- الأوكرانية لقد كان الموقع الجيوسياسى للمنطقة، بوصفها جسرًا بين أوروبا وآسيا، وتحيط بها قمم جبال القوقاز الشامخة، نعمة ونقمة فى الوقت نفسه، فمن ناحية، تستطيع بلدان جنوب القوقاز أن تستفيد من كونها حارسة لتدفقات التجارة التى تمر عبرها، لكن من ناحية أخرى، فإن هذا التموضع الاستراتيجى جعل المنطقة ساحة للتنافس بين القوى الإقليمية، وفى مقدمتها روسيا، وتركيا، وإيران، ومع الحرب الروسية- الأوكرانية أصبح الوضع الإقليمى أكثر هشاشة؛ ما أضاف أخطارًا جديدة إلى البيئة الأمنية الهشة، وهو ما انعكس على سياسات دول جنوب القوقاز تجاه طرفى الحرب. ولعل جورجيا كانت الدولة الوحيدة من بين الدول الثلاث التى أدانت روسيا إدانة مباشرة؛ نظرًا إلى كونها الدولة القوقازية الوحيدة التى لها سياسة خارجية واضحة مؤيدة للغرب، والتى تطمح إلى عضوية الاتحاد الأوروبى والناتو، وأيضًا الدولة الوحيدة فى الإقليم التى خاضت حربًا مع روسيا، لكنها مع ذلك حاولت أن تبتعد عن دعم أوكرانيا دعمًا كاملًا على الصعيد الرسمى، غير أن هذا لم يمنع الدعم الشعبى لأوكرانيا فى حربها ضد روسيا، إذ شهدت العاصمة الجورجية تبليسى مظاهرات حاشدة منذ بدء الحرب لدعم كييف، وإدانة موسكو. وفى مقابل هذا، سعت أذربيجان إلى تبنى نهج متوازن تجاه الحرب الروسية- الأوكرانية، إذ كان الدعم الذى قدمته روسيالأرمينيا فى صراع كارباخ دافعًا إلى حذر باكو من دعم مطلق لموسكو فى الحرب، لكن امتناع أذربيجان عن انتقاد روسيا فى العلن لم يمنعها من تقديم الدعم على نحو غير مباشر لكييف، من خلال تأكيد وحدة أراضيها وسلامتها؛ ومن ثم كانت سياسة الحياد هى السياسة الأكثر أمانًا لباكو للحفاظ على شراكاتها مع موسكو وكييف، فى حين اتخذت أرمينيا (الشريك الوثيق لروسيا) سياسة أكثر دعمًا لموسكو، دون استعداء أوكرانيا؛ نظرًا إلى طبيعة التحالف الاستراتيجى بين روسياوأرمينيا؛ إذ تعتمد يريفان على موسكو اعتمادًا شبه كامل، خاصة فى المجالات الاقتصادية والأمنية؛ ما قلل مساحة مناورتها للحفاظ على علاقة وثيقة مع أوكرانيا بعد الحرب. تأثير الحرب الروسية- الأوكرانية على جنوب القوقاز لقد كانت حرب روسيا على أوكرانيا عام 2022 صدمة للوضع الراهن لم تشهدها منطقة القوقاز منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، وعاشت على إثرها دول القوقاز سلسلة من التقلبات نتيجة لتطور الصراع واسع النطاق بين روسيا والغرب فى أوكرانيا. وبوقوفها على مفترق طرق، بدأت البلدان الثلاثة التى تشكل هذه المنطقة تبرز الآن بوصفها دولًا عازلة جديدة فى عالم مجزأ على نحو متزايد. وعلى إثر ذلك، عانى اقتصاد بلدان القوقاز بسبب اعتمادها الكبير على التجارة الروسية، والانخفاض الحاد فى التحويلات المالية، لكن بعد أن فرضت الدول الغربية عقوبات وقيودًا أخرى أدت إلى الحد كثيرًا من التجارة بين روسيا والغرب، تحولت منطقة القوقاز إلى رابط طبيعى لاستمرار تدفق التجارة، وأصبحت فجأة الطرق السريعة والسكك الحديدية القليلة الرئيسة التى تربط روسيا عبر المنطقة بالعالم الخارجى أكثر قيمة للقوى الخارجية. وتحول الطريق البرى الذى يربط روسيا مباشرة مع تركيا عبر جورجيا إلى خط عملاق من الشاحنات، وقد رأت حكومة جورجيا فى هذا فرصة ذهبية، وأصبحت البلاد التى يبلغ عدد سكانها 3.6 مليون نسمة أكثر أهمية وقيمة لطرفى الصراع. ولأن روسيا كانت بحاجة إلى طرقها اللوجستية، فقد كان الغرب يشعر بالقلق من احتمال انحراف جورجيا عن مسارها الموالى للغرب؛ لذا حاول كلا المعسكرين استقطاب جورجيا؛ فسعت موسكو إلى تقديم الجزر لجورجيا للتأكد من أنها تقف إلى جانبها، كما رفعت قيود التأشيرات، والحظر المفروض على الرحلات الجوية المباشرة بين المدن الجورجية والروسية. وفى المقابل، قرر الاتحاد الأوروبى ترقية جورجيا إلى صفة العضو المرشح الرسمى، مع أن انضمام البلاد فعليًّا إلى الاتحاد الأوروبى لايزال بعيدًا. ولمواكبة تلك التطورات، وبفضل الشعور بالنفوذ الاقتصادى المكتسب حديثًا، بدأت حكومة جورجيا فى تعزيز علاقاتها التجارية الإقليمية؛ إذ أقرت البلاد قانونًا مثيرًا للجدل يهدف إلى الحد من نفوذ المنظمات غير التجارية الممولة من الغرب فى البلاد. ورغم الاحتجاجات الشعبية، نجحت الحكومة فى دفع القانون من خلال البرلمان، وفى اليوم التالى لإقرار القانون منحت الحكومة الجورجية أيضًا مناقصة لتطوير أول ميناء بحرى عميق على البحر الأسود لشركة صينية، وهو ما يُنظر إليه بوصفه عامل تغيير لقواعد اللعبة التجارية فى المنطقة، ولكن من المرجح أن تستفيد روسيا أيضًا من موقعها بجوار منطقة أبخازيا فى جورجيا التى تسيطر عليها، إذ تعمل روسيا على بناء منشأة بحرية فى أبخازيا على بعد 25 ميلًا فقط من الميناء الجديد، وهو ما من شأنه أن يسمح لها بممارسة النفوذ على تدفقات التجارة التى تُعالَج هناك. وعلى نحو مماثل، شهد المشهد الجيوسياسى فى جنوب القوقاز، وخاصة فيما يتصل بمنطقتى أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، تحولات كبيرة فى أعقاب الحرب الدائرة فى أوكرانيا، فقد أشعل الصراع فتيل المناقشات بشأن سلامة الأراضى والسيادة، وأثر فى التحالفات الإقليمية، إذ اضطر الاتحاد الأوروبى إلى النظر فى علاقته مع جورجيا، وبالإضافة إلى ذلك، ومع مواجهة روسيا للعزلة الدولية، حولت دعمها للمنطقتين المنفصلتين أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا نحو المجهود الحربى فى أوكرانيا. ولأن هذا الدعم لا يقتصر على الجانب العسكرى فحسب، بل يشمل أيضًا أبعادًا اقتصادية وسياسية، فإن روسيا تسعى إلى الحفاظ على نفوذها فى المنطقة فى ظل نظام عالمى متغير. ومع ذلك، راجعت موسكو أولوية الدعم الذى ينبغى لها أن تستمر فى تقديمه للأنظمة الانفصالية القائمة؛ ومن ثم ارتبطت أهم العواقب الرئيسة لتراجع العلاقات الاقتصادية بين روسيا وأوسيتيا الجنوبية فى احتمال إضعاف الأداء الاقتصادى لأوسيتيا الجنوبية نتيجة انخفاض الدعم من راعيها الأساسى. وعلى النقيض من أبخازيا، لا تستطيع أوسيتيا الجنوبية تنويع اقتصادها، وحتى قبل الحرب، كانت الطريقة الوحيدة التى اكتسبت بها عوائد مالية هى العمل كقناة خارجية تمول من خلالها روسيا عملياتها فى دونباس، وقد منحها هذا دخلًا إضافيًّا من المعاملات المصرفية دون أى مشاركة مباشرة فى العملية العسكرية الروسية. لقد أثرت الخريطة الجديدة لتدفقات التجارة التى نشأت بعد الحرب فى أوكرانيا أيضًا فى حسابات أذربيجان- الجمهورية الغنية بالنفط الواقعة على بحر قزوين- فقد احتاجت أوروبا إلى غاز أذربيجان بعد أن قررت قطع أغلب الإمدادات الروسية، وسعت إلى زيادة التجارة بين آسيا الوسطى والصين عبر ما يسمى الممر الأوسط الذى يمر عبر أذربيجانوجورجيا متجاوزًا روسيا، ومن ناحية أخرى، كانت موسكو بحاجة إلى أذربيجان لتطوير مشروع طموح لربط روسيا بإيران ثم بالهند. وبرزت مكانة أذربيجان بوضوح بعد أن امتلكت كل أوراق النفوذ الاقتصادى لروسيا والدول الغربية؛ ما أتاح الفرصة لزعيمها إلهام علييف للتحرك بحسم لاستعادة منطقة كاراباخ بكاملها، فمنذ عقود ظلت منطقة كاراباخ، المعترف بها دوليًّا جزءًا من أذربيجان، موضع نزاع بين الأرمن والأذربيجانيين. وفى عام 2023، اضطر أكثر من 100 ألف أرمينى، كانوا يعيشون فى المنطقة منذ قرون، إلى الفرار من منازلهم خوفًا من الانتقام، وفى عام 2024، تبعتهم قوات حفظ السلام الروسية التى أكملت انسحابها من المنطقة، ولأول مرة فى تاريخها، سيطرت أذربيجان على أراضيها السيادية بالكامل. جنوب القوقاز بين روسياوالولاياتالمتحدة ينطوى مستقبل الحرب الروسية- الأوكرانية على أخطار أمنية جديدة لدول جنوب القوقاز الثلاث المثقلة بالفعل بالبيئة الأمنية المضطربة، ما يؤدى إلى تصعيد الاستقطاب المجتمعى والسياسى. إن دول المنطقة سوف تضطر إلى الحد من عواقب الضغوط الروسية، وحماية السيادة الوطنية وسلامة أراضيها واستقلالها، وهو ما يستدعى تعزيز القوانين واللوائح الدولية المتعلقة بسلامة أراضى المنطقة. وإذا تغيرت أراضى أوكرانيا بسبب الحرب، فإن هذا من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة على الدول الثلاث؛ لأن لدى منطقة جنوب القوقاز تاريخًا طويلًا من الصراعات والهيمنة الروسية بدرجات متفاوتة، وقد تتفاقم تلك العداءات فى ظل إطالة أمد الحرب، وفى أسوأ السيناريوهات، قد تؤدى الحرب الروسية على أوكرانيا إلى مزيد من الانقسامات بين بلدان جنوب القوقاز للإبقاء على علاقات جيدة مع روسيا، أو لتجنب استعدائها، وضمان الحصول على أقصى قدر من الحكم الذاتى. وبالإضافة إلى الأخطار الأمنية العنيفة التى قد تواجهها المنطقة، تشهد منطقة جنوب القوقاز ضغوطًا اقتصادية جديدة بسبب استمرار الحرب، وخاصة إذا استمرت الدول الغربية فى فرض عقوبات على روسيا، وقد بدأت مؤشرات تلك الضغوط المرتبطة بتدهور قيمة الروبل الروسى، وانخفاض النشاط التجارى والاقتصادى تؤثر فى هذه المنطقة. غير أن الواقع الجغرافى الاقتصادى الجديد يصب فى صالح الدول الثلاث، إذ إن تراجع نفوذ روسيا جعلها من بين اللاعبين الآخرين فى جنوب القوقاز، ولم يعد بوسعها تجاهل دور الصين والاتحاد الأوروبى وإيران وتركياوالولاياتالمتحدة هناك، فضلًا عن أن التعددية الجيوسياسية والجيواقتصادية الناشئة فى المنطقة جعلت أرمينياوأذربيجانوجورجيا أكثر جرأة فى الانخراط مع كل القوى الخارجية، ومن المرجح أن تسعى أذربيجان فى التعامل مع كل القوى للحفاظ على أمنها القومى وسط المستجدات الراهنة، فى حين تجد أرمينيا نفسها فى حالة معقدة من انعدام الأمن؛ ما يؤثر فى منظورها الحالى لسياساتها الخارجية، أما جورجيا فليس أمامها إلا أن تحافظ على موقفها متعدد الأطراف. لقد أسفرت الحرب فى أوكرانيا عن تسريع ما بدأ بحرب كاراباخ عام 2020، إذ انحازت موسكو إلى أذربيجان بدلًا من حليفتها أرمينيا، وكان قرار موسكو البقاء بعيدًا فى الوقت الذى استعادت فيه باكو السيطرة على كاراباخ يُنظر إليه على نطاق عريض على أنه خيانة ليريفان؛ ما جعل أرمينيا تُعيد النظر فى علاقاتها مع روسيا، إذ يدور حديث فى يريفان عن الانسحاب من التحالف الأمنى الذى تقوده موسكو تحت اسم منظمة معاهدة الأمن الجماعى، بعد أن فشلت عضوية أرمينيا فيه فى منع هزيمتها فى كاراباخ، واحتلال أذربيجان عدة مناطق فى أرمينيا نفسها، ويأتى هذا فى إطار بحث أرمينيا عن شركاء جدد بدلًا من موسكو؛ لذا تسعى إلى توثيق علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبى، والولاياتالمتحدة. وفى المقابل، أدى هذا إلى تزايد التقارب بين موسكو وباكو، حيث تستغل أذربيجان تركيز موسكو على أوكرانيا لتحقيق أهدافها بالكامل، إذ أصبحت باكو مستعدة للمضى قدمًا لتوثيق نفوذها الاقتصادى فى المنطقة، فعلى سبيل المثال، تحاول أذربيجان- بدعم من موسكو- السيطرة على رابط تجارى رئيس من شأنه أن يربط إقليم ناخيتشيفان التابع لها من خلال خط سكة حديدية عبر أرمينيا، يمتد بعد ذلك إلى تركيا، ومن شأن هذا أيضًا أن يؤدى إلى إنشاء خط سكك حديدية مباشر بين روسياوتركيا. وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن استمرار الحرب فى أوكرانيا قد يجلب بعض التغييرات السياسية والاقتصادية العالمية فى جنوب القوقاز، وقد تحاول روسيا تعزيز نفوذها فى جنوب القوقاز تعويضًا عن الضعف فى أوروبا الشرقية. ومن ناحية أخرى، سيحاول الغرب الاستفادة من تلك الفرصة، وزيادة آليات نفوذه المباشر فى المنطقة، إذ تحاول الدول الغربية، وخاصة الولاياتالمتحدة، الاستفادة من الوضع الجيوسياسى الملائم لتعزيز وجودها فى جنوب القوقاز، ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى كون دول جنوب القوقاز ليس لها أهمية استراتيجية كبيرة للولايات المتحدة، ما قد يجعلها تتوخى الحذر فى الانخراط فى تلك المنطقة، على عكس الدول الأوروبية التى تنظر إلى المنطقة من منظور أمنى. وفى المحصلة، يشكل جنوب القوقاز جزءًا من المجال الأمنى الأوروبى والشرق أوسطى، ويؤدى دورًا مهمًّا فيهما؛ ومن ثم فإن دخول الحرب الروسية- الأوكرانية عامها الرابع سينعكس- بالضرورة- على طبيعة علاقات دول جنوب القوقاز بالقوى الإقليمية والدولية، لاسيما أن الحرب فى أوكرانيا كشفت عن نقاط ضعف روسيا فى تلك المنطقة؛ ما أثر فى حسابات الدول الثلاث فى منطقة كانت موسكو تتمتع فيها تقليديًّا باليد العليا على الجهات الفاعلة المحلية والخارجية المتنافسة؛ ما يمكن معه القول إن الحرب الروسية- الأوكرانية هى بداية لإعادة جدولة النظام الاستراتيجى الجديد فى جنوب القوقاز. *باحثة دكتوراه فى العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة ينشر بالتعاون مع CAES مركز الدراسات العربية الأوراسية