فى ظل استمرار آلة الحرب الإسرائيلية بارتكاب المزيد من المجازر وتدمير المنازل والمستشفيات ومنع الطعام بهدف التجويع وإجبار السكان على ترك منازلهم لتنفيذ مخطط التهجير، نعود مرة أخرى ونتساءل: هل هذه دولة تريد السلام وتعمل من أجله، وهل كانت اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية فى صالح القضايا العربية.. ولكى نتعرف أكثر على خفايا هذه المعاهدة نعود لمذكرات وزير الخارجية المصرى الأسبق محمد إبراهيم كامل الذى استقال فى الولاياتالمتحدة أثناء توقيع اتفاقية كامب ديفيد، احتجاجا على توقيع مصر على المعاهدة.. ورفض أن يعود على طائرة واحدة مع الرئيس السادات من واشنطن. كتب إبراهيم كامل فى مذكّراته «السلام الضائِع فى اتفاقات كامب ديفيد» أن تلك الاتفاقيات ستؤدّى إلى عُزلة مصر وستسمح للدولة الصهيونية بحرية مُطلقة فى ممارسة سياسة القتل والإرهاب فى المنطقة مُستخدمة السلاح الأمريكى كمخلب لها.. فالأفكار الأمريكية التى طُرحت فى كامب ديفيد كانت تهدف لإضفاء غطاء شرعى للاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية»، وأكمل بأن «ما قبل به السادات بعيد جدًا عن السلام العادل». انتقد «كامل» كل الاتفاقيات لكونها لم تشر صراحة إلى انسحاب إسرائيلى من قطاع غزّة والضفة الغربية، ولعدم تضمينها حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره.. وانتهت مراسم التوقيع على اتفاقية «كامب ديفيد» يوم 17 سبتمبر 1978، ولفت انتباه المُتابعين للحدث غياب إبراهيم كامل، فلم يكن أحد يعرف أن سبب الغياب هو «استقالته» احتجاجًا على الاتفاق الذى تمّ الانتهاء إليه. وينتقل وزير الخارجية الأسبق للحديث عن ملابسات تقديمه الاستقالة قائلا: حملت مقعدى بالقرب من حيث يجلس السادات وقلت فى هدوء: «أرغب فى أن أتحدث إليك لا بوصفى وزيرا للخارجية يتحدث إلى رئيس الجمهورية، ولكن بوصفى صديقا وأخا أصغر لك، أكلنا معا العيش والملح فى السجن منذ ثلاثة وثلاثين عاما (اتهامهما سويا فى قضية اغتيال أمين عثمان عام 1946)، وأنت تعلم مدى إخلاصى لك وللحق، وإنى حريص على ألا تقدم على شىء تندم عليه فيما بعد». رد السادات بصوت هادئ: «وهل بينى وبينك حجاب يا محمد؟ قل ما تريد ولا تتردد»، فقال محمد: «اطلعت على المشروع الذى قدمه لك أمس الرئيس كارتر بإطار السلام، ووجدته بعيدا كل البعد عن تحقيق السلام الشامل الذى نستهدفه، فالمشروع الأمريكى رسم الطريق إلى سلام كامل بين مصر وإسرائيل مستقلا تماما عما يجرى فى الضفة الغربية وغزة، فلا رابطة بينهما تضمن التزامن بين حل مشكلة سيناء وحل المشكلة الفلسطينية وهى الأصل، وستكون النتيجة أن ينتهى الأمر إلى معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل، بينما تبقى الضفة الغربية وغزة تحت قبضة إسرائيل تمارس فيها تنفيذ تخطيطها لضم هذه الأراضى فى النهاية». مضيفًا: لذلك أرجوك وأستحلفك أن ترفض التوقيع على مثل هذا الاتفاق المدمر. ورد عليه السادات قائلا: إنك لا تعلم شيئا عن العرب، اسألنى أنا إنهم لو تركوا وشأنهم فلن يحلوا أو يربطوا، وسيظل الاحتلال الاسرائيلى قائما إلى أن ينتهى إلى التهام الأراضى العربية المحتلة، دون أن يحرك العرب ساكنا غير الجعجعة وإطلاق الشعارات الفارغة، كما فعلوا منذ البداية ولن يجمعوا على حل أبدا. هنا رد عليه الوزير محمد إبراهيم كامل: إنى لا أشاركك الرأى فيما قلته وهو ليس صحيحا على إطلاقه، فقد اجتمعت كلمة العرب واتحدوا على يديك أنت نفسك وحققوا تضامنا وتكاتفا عظيما عسكريا وسياسيا واقتصاديا فى حرب أكتوبر 1973 وبعدها، وهذه حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها ولم يبذر بذور الشقاق والتفتت العربى من جديد. ويضيف: الاتفاقية، وفقًا للمشروع الأمريكى، لن تؤدى إلى حل شامل بل ستنتهى إلى صلح منفرد بين مصر وإسرائيل، بينما تظل الضفة الغربية وغزة والجولان تحت الاحتلال الإسرائيلى، وسيؤدى ذلك إلى عواقب وخيمة أخطرها عزل مصر وانعزالها عن العالم العربى وما سيؤدى إليه ذلك من إطلاق يد إسرائيل فى المنطقة، قاطعه السادات: ها أنت تردد كالببغاء ما يقوله الاتحاد السوفيتى عن صلح منفرد، كيف يكون صلحا منفردا إذا كنت سأظل ملتزما بأن أقوم بدور فى الحكم الذاتى فى الضفة الغربية وغزة خلال فترة السنوات الخمس الانتقالية وحتى تحل القضية الفلسطينية. ورد الوزير كامل بأنك إذا وقعت على اتفاقية على أساس المشروع الأمريكى فستكون حلا منفردا بكل المعايير، ولن تنجح فى خداع أحد بغير ذلك، وأفضل لنا وأشرف أن نقول ذلك صراحة على أن نتستر وراء مسرحية الحكم الذاتى كما وردت فى المشروع. هنا أيقن «كامل» أنه لا فائدة من الحديث مع السادات، فبادره بطلبه: إذن أرجو أن تقبل استقالتى. ورد عليه السادات: كنت أعلم من البداية أنك تلف وتدور لتقول هذا فى النهاية. قاطعه محمد كامل قائلا: لا، لقد حاولت إقناعك بما أراه وفشلت، فلم يبق أمامى إلا هذا المخرج فأنا لا أستطيع أن أوافق على شىء يبدو لى من المؤكد خطؤه وخطره، ولا أنا أستطيع أن أغشك وأغش نفسى وضميرى فإنه كامن داخلى يعيش معى ليل نهار. السادات: إذا كان هذا يريحك فإنى أقبل استقالتك، وكل ما أطلبه منك هو ألا تخبر أحدا بأمرها حتى نعود إلى مصر. فقبل الوزير كامل قائلا: سأفعل، فقصدى ليس إحراجك، وظل يحتفظ بسر هذا اللقاء حتى العودة للقاهرة. فى حوار إبراهيم كامل مع نبيل العربى بعد لقاء الثانى بالسادات منفردًا، ليعرض عليه الرأى القانونى فى ما يتعلق بالخطابات المُتبادلة حول القدس، قال له السادات «أعلم أن كل ما قلته لى قد دخل من أذنى اليمنى وخرج من أذنى اليسرى، إنكم فى وزارة الخارجية تظّنون أنكم تفهمون فى السياسة ولكنكم لا تفهمون شيئًا على الإطلاق ولن أعير كلامكم أو مذكّراتكم أىّ التفات بعد ذلك، إننى رجل أعمل وفقًا لاستراتيجية عُليا لا تستطيعون إدراكها أو فهمها ولست فى حاجة إلى تقاريركم السفسطائية الهائفة». وفى النهاية تمّ الاتفاق بين كارتر والسادات على إسقاط الإشارة إلى القدس فى الاتفاقية نهائيًا وأن يعالج موضوع القدس عن طريق خطابات مُتبادلة تلحق بالاتفاقية بين السادات وكارتر من جهة وبين كارتر وبيجين من جهة أخرى، يحدّد فيها كل موقفه من موضوع القدس.