فى التاسع والعشرين من أكتوبر، وبعد مرور أقل من شهر واحد من بدء الحرب، خرجت إيمان بشير، معلمة بإحدى مدارس «وكالة إغاثة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة - الأونروا» عن صمتها، وكتبت على حسابها على منصة إكس «إسرائيل ب7 أكتوبر وبدونه كانت غزة. أنا بشتغل فى مدرسة حدودية تابعة لوكالة الغوث.. كان يُطلب منا دائمًا نلبس ملابس فضفاضة تساعدنا عالهرب فى حالة القصف» على مدار أعوام عملها فى مبنى المدرسة الحدودية، بشمال غزة شهدت «إيمان» استشهاد نصف طالبات الصف الذى كانت مسؤولة عنه، أما النصف الآخر فكنّ يشاهدن رفاقهن يقتلن بدماء باردة «هالمرة كان معى 40 طالبة فى الصف مكلفة أحميهم ومش قادرة أحمى حالى». لا تستطيع «إيمان» أن تحصى كم مرة اضطرت لأن تختبئ داخل الفصل مع طالباتها، تستلقى على الأرض وتنتظر قدرها، تمامًا 203 شهداء وثقهم جهاز الإحصاء الفلسطينى من العاملين بالأونروا، ضمن أكثر من 41 ألف شهيد فى فلسطين منذ بدء السابع من أكتوبر. يعد تعمد توجيه هجمات ضد الأفراد أو المنشآت أو الوحدات المشاركة فى المساعدة الإنسانية، وتعمد توجيه هجمات ضد المبانى المخصصة للأغراض الخيرية والمستشفيات المدنية ضمن جرائم الحرب، وفقًا لاتفاقية جنيف الموقعة فى 12 أغسطس 1949، وجميع القوانين والأعراف المطبقة فى النزاعات المسلحة الدولية، ضمن الإطار الثابت للقانون الدولى. فى هذا التحقيق يكشف فريق «صحافة البيانات» فى «المصرى اليوم» كيف تعمدت إسرائيل قطع أوصال الرحمة عن الفلسطينيين باستهداف مخيمات النازحين التابعة للأونروا، والمستشفيات، وعمال الرعاية الصحية، وعمال الإغاثة وقوافل الغذاء- وفقًا لسجلات بيانات الأممالمتحدة، لإحكام قبضة الإبادة الجماعية التى بدأت فى تنفيذها منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن. رسوم- خالد صلاح الأممالمتحدة توثق تدمير 80٪ من القطاع الصحى فى قطاع غزة و 17٪ بالضفة الغربية عدد وقائع القصف ، المصدر بيانات الأممالمتحدة «1320» استهدافًا ل35 مخيمًا للنازحين رسوم- خالد صلاح «كنا مفكرينها زى أى حرب.. بتنتهى بسرعة.. حتى طلبوا منا نخلى إلى الجنوب».. بعد 40 يومًا من الحرب، وفى بداية شتاء العام الماضى، بدأت عائلة الشيخ بأكملها رحتلها مع النزوح داخل غزة.. تحكى «رزان» قصة ذويها. أم وأب فى الخمسينيات من عمرهما، حولتهما الحرب إلى شيوخ فى الثمانينيات، بعدما تفاقمت أمراضهما «بتذكر هديك الليلة الأخيرة اللى شفت أهلى فيها.. وجوههم أصغر من الخوف مكنوش ياكلوا شى مقدروش يتحركوا من مكانهم من شدة القصف». داخل مخيم النازحين الذى استوطنوا به منذ سنوات، اشتد القصف، أضحت الأشلاء فى كل مكان، الصراخ والعويل يعلو كل شىء، والإسعاف لا تعرف من تسعف ومن تترك.. قُصف المخيم، وظلت العائلة بأكملها 3 أيام فى العراء.. ثم توجهوا بدون تفكير إلى الجنوب، حيث ادعى الجيش الإسرائيلى أنه آمن.. لكنه لم يكن مأوى، ظلوا لأيام طويلة بالشوارع، لا طعام.. لا شراب.. لا غطاء. وأخيرًا وجدت عائلة الشيخ مأوى فى رفح، عبارة عن ربع «صف» داخل مدرسة، 3 أمتار تأوى عائلة مكونة من 15 فردًا.. هو مأوى لهم، ومكان نومهم، ومطبخهم، أما دورة المياه فكانت قصة طويلة.. بحسب قول «رزان». حاولت العائلة أن تتعايش، وبحثوا عن عمل يؤمّن حتى قوت يومهم، قبل أن تنقلب الأمور مرة أخرى رأسًا على عقب، اجتاح الجيش الإسرائيلى رفح، وبدأ القصف من جديد، سيطروا على المعبر، أطلقوا عليه حاجز فيلادلفيا، ونسفوا المبانى فوق سكانها، شردوا الجميع من جديد، اضطرت عائلة الشيخ لأن تعود إلى النزوح، بلا شىء حتى الملابس. هرعوا إلى خان يونس، يجاورون آلاف النازحين بالشوارع، «حتى الطرقات والرصيف مفيش مكان ليهم».. تقول رزان، اضطروا إلى استئناف رحلة النزوح إلى النصيرات، يفترشون الوحل منذ شهرين «بلا فراش ولا حرامات»، ينهش البرد أجسادهن، ويدبرون أمرهم بقطع القماش الممزقة لتستر أجسادهم، ويشعلون البلاستيك حتى يستطيعوا الطهى.. «مرض بمرض.. ما احنا كده كده ميتين».. تقول «رزان»، ويتأهبون فى أى لحظة للنزوح من جديد. بين السابع من أكتوبر والثامن والعشرين من أغسطس 2024، نفذت إسرائيل 1320 هجومًا على مخيمات النازحين فى فلسطين، 75٪ من تلك الهجمات فى قطاع غزة، و23٪ من تلك الهجمات فى الضفة الغربية. 238 هجومًا على مخيم النصيرات وحده، يليه فى عدد الهجمات كل من مخيمات «جباليا، والبريج، والمغازى» بمجموع 425 هجومًا، كما نالت مخيمات النازحين المؤقتة نصيبها من الهجمات، بنحو 75 هجومًا، نفذ الجيش الإسرائيلى 97٪ من تلك الهجمات، وتشارك معه المستوطنون والمسلحون الإسرائيليون فى تنفيذ البقية. نُفذت أكثر الهجمات على مخيمات النازحين بالطيران الإسرائيلى تحديدًا 42٪، و30٪ من الهجمات تم تنفيذها بالأسلحة النارية المباشرة، بينما تباينت طريقة تنفيذ بقية الهجمات بأسلحة متعددة، منها القنابل الجوية والمدفعية والطائرات بدون طيار والصواريخ والرصاص الحى والمطاطى، وغيرها من الأسلحة. وكانت نحو 807 من الهجمات عبارة عن غارات جوية، و200 هجمة كانت عبارة عن استهداف مباشر للنازحين، 96 هجمة استهدفت قطاعات التعليم والصحة، و16 هجمة استهدفت قوافل المساعدات. ووفقًا لسجلات الأممالمتحدة فى تلك الفترة، قتل 4330 من سكان المخيمات، وجرح أكثر من 3000 نازح، واعتقل أكثر من 1000 آخرين، ودُمر 14 مخيمًا بالكامل، واعتقل 79 شخصًا. وسجلت 5 وقائع عنف جنسى ضد النازحين، كان أولها فى 30 ديسمبر 2023، حيث أُجبرت امرأة على دخول خيمة وتعرضت للاعتداء الجسدى والتفتيش العارى من قبل ضابطة إسرائيلية، بعد مداهمة مدرسة كانت تستخدم كمأوى مؤقت. كان قد تم نقلها، مع عدد غير محدد من النساء الأخريات، إلى السجون الإسرائيلية، وفى كل مرة أجبرن على الخضوع لتفتيش عارٍ آخر تقوم به جنديات إسرائيليات. أثناء التفتيش العارى، بصق الجنود الرجال على أجساد النساء الفلسطينيات وانتهكوا حرمة أجسادهن العارية بأيديهم، دون الخوض فى المزيد من التفاصيل، ووثقت الأممالمتحدة تلك الواقعة. وكانت الواقعة الثانية فى الحادى عشر من يناير 2024، وفقًا للسجلات، حيث قام جنود الاحتلال بتجريد عدد غير محدد من النساء والفتيات من ملابسهن فى مخيم النصيرات بمحافظة دير البلح، وجمعوها فى حفرة وأحرقوا ملابسهن الداخلية أمام أعينهن. «161» واقعة اعتداء على حملات الإغاثة رسوم- خالد صلاح كانت معاناة «فادى» مضاعفة، إذ إنه فلسطينى يعيش بغزة، يعمل مصورًا مع وكالة «الأونروا»، نزح فادى فى بداية الحرب من شمال القطاع، ثم نزح بعدها إلى المنطقة الوسطى، ثم رفح فى الجنوب، وبعدها إلى منطقة المواصى، وبعدها عاد مرة أخرى إلى دير البلح، ليكون هذا هو «النزوح التاسع أو العاشر»، بحسب فادى. ووسط النزوح المستمر، يحاول فادى مساعدة أهل غزة فى المقام الأول، ثم يوثق ويلات الحرب بعدسة الكاميرا، وهى مهنته الأساسية مع وكالة «الأونروا». فى دير البلح، ازداد الواقع سوءًا بعد نزوح الآلاف من رفح جنوب القطاع إلى المنطقة الوسطى، بعد الهجوم الإسرائيلى على رفح، «لا غذاء.. لا خيام.. لا أغطية»، حيث تتكلف كل عملية نزوح 1500 دولار، حتى تحظى بمكان شبه آدمى لك ولعائلتك، وفق «فادى». فقد «فادى» بيته وأثاثه ومعداته والكاميرا وعدساته.. خرج فقط بملابسه التى يرتديها أثناء القصف، وظل هكذا لأكثر من ثمانية أشهر، وعلى الرغم من المعاناة المزدوجة التى يعانيها فادى بسبب عمله، إلا أن أصعب ما يمر به هو توثيق صورة الأطفال الجوعى والجرحى والأشلاء المتناثرة، كما يوثق انتشار الأوبئة والأمراض بين النازحين. «فادى» الذى عايش ووثق استشهاد زملائه أمام عينيه، يقول إن الأصعب بالنسبة له هو الاستمرار فى العمل، وذووه عالقون فى شمال غزة، لا يعرف عنهم شيئًا، وأنه لا يستطيع أن يجلب الطحين والماء ليسد رمق أبنائه.. لا يختلف طموحه عن آمال جميع أهالى غزة «فقط يريدون أن يعيشوا». منذ السابع من أكتوبر وحتى 30 أغسطس 2023، وثقت الأممالمتحدة 161 واقعة اعتداء على عمال الإغاثة فى فلسطين، 81٪ منها فى قطاع غزة، و17٪ منها فى الضفة الغربية، 29 واقعة منها حدثت فى الطريق العام، حيث لم يفرق الاحتلال بين النازحين وعمال الإغاثة.. فهم يستهدفون الجميع، و25 هجومًا تم شنها على المنشآت الصحية حيث يتواجد أغلب عمال الإغاثة، و25 واقعة أخرى داخل مخيمات النازحين، و19 هجمة شنت على بيوتهم، 11 هجمة أخرى تم شنها على مواقع المشروعات الخاصة بهيئات الإغاثة المحلية والدولية والمنظمات غير الحكومية. وتم شن 7 هجمات على موظفى الإغاثة بمختلف مؤسساتهم داخل نقاط التفتيش، بينما تم استهدافهم داخل المستودعات فى 4 هجمات. استهداف موظفى الإغاثة ، المصدر بيانات الأممالمتحدة وكانت الأسلحة النارية المباشرة هى وسيلة الاستهداف الأولى، حيث تم استخدامها فى 72 هجمة، بينما جاءت الغارات الجوية فى المرتبة الثانية بنحو 38 هجومًا، وتباينت بقية الهجمات عبر الطائرات بدون طيار والصواريخ والمدفعية والحرائق المتعمدة والقنابل اليدوية. استهدفت 17٪ من الهجمات موظفى الأممالمتحدة وتحديدًا «الأونروا» فى 27 واقعة، بينما كان للصليب الأحمر نصيب الأسد بنحو 43٪ من الهجمات، فى 69 واقعة، تليه المنظمات غير الحكومية الدولية ب 38 هجومًا. وكان أكثر أنواع الإغاثة المستهدفة الإغاثة الصحية فى نحو 101 هجوم، بحسب بيانات الأممالمتحدة، يليها العاملون فى قطاع الأمن الغذائى وحماية النازحين والتعليم وحقوق الإنسان. وخلال الفترة بين 7 أكتوبر 2023 و30 أغسطس 2024، قتل 187 عاملًا فى قطاع الإغاثة، بحسب بيانات الأممالمتحدة، بينهم 163 عامل إغاثة محليًا، و9 من عمال الإغاثة الدوليين، واعتقل 119 عامل إغاثة، بينهم 90 محليًا.. 6 منهم قتلوا داخل الأسر، وأصيب 75 عامل إغاثة آخرون. سجلات المنظمة الدولية توثق: أعمال عدائية لمنع وصول الغذاء.. والمستشفيات أهداف للقصف استهداف 47 مستودع وشاحنة وعربة وقافلة تنقل الغذاء للنازحين «لا تنس الشجاعية يا على.. الشجاعية تحتاجك».. كانت هذه آخر رسالة تلقاها «على أكرم» أحد المتطوعين فى فرق الإغاثة، وتحديدًا قوافل الغذاء من «إبراهيم الغولة» قبل استشهاده. كتب «الغولة» قبل استشهاده ببضع ساعات على صفحته الشخصية: «لا أريد أن أنتهى فى كيس، أتنازل عن كل شىء عدا موتى، أريد كفنًا كاملًا طوله 192 سنتيمترًا، لن أتنازل عن جثتى أريدها كاملة، أريد ذراعى وقدمى وقلبى ورأسى وأصابعى العشرين وعينى أيضًا، أريد أن أعود لرحم الأرض كما خلقت منها، نفس الأرض هنا فى هذا البلد، لا أمانع إن دفنت فى قبر جماعى، لكنى أريد اسمى على الشاهد، وعمرى كذلك، وأنى هنا من هذا الوطن الذبيح، وأود برجاء حد المرار، أن يكون قبرى فى مقبرة حقيقية، لا شارع ولا رصيف ولا شىء آخر كأمنية أخيرة لنا وحق لنا، الوداع».. وكأنه شاهد الموت بأم عينيه وهو فى الطريق إليه، من هول المشاهد التى رآها خلال الحرب.. وكان له ما تمنى. يقول صديقه على «كان جسده سليمًا تمامًا.. فقط جرح قطعى فى الرأس، وكان مع رجال الإسعاف كفن واحد.. استوعبه هو وابنته الرضيعة، التى فصل رأسها عن جسدها». استشهدت العائلة بالكامل، الأب والأم والرضيعة، ولم يتبق منها سوى الابنة الكبرى فاطمة، التى أصيبت بجرح قطعى فى الرأس، وتم نقلها إلى مستشفى المعمدانى فى ذلك الوقت. منذ التخرج اعتاد «إبراهيم» و«على» التطوع فى قوافل الإغاثة، قررا أن يساهما فى نقل الغذاء والمياه والعلاج للمصابين، وأن يفعلا أى شىء من أجل أهالى غزة، وعلى الرغم من استمرار القصف والنزوح، وسقوط الشهداء، نفذ على وصية صديقه إبراهيم، وأسس نقطة جديدة للإغاثة فى الشجاعية، لاستمرار غزل أوصال الرحمة الذى يقطعه الاحتلال عن عمد كل يوم. «47» واقعة استهداف لقوافل الغذاء منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى السابع من أغسطس 2024 وثقت الأممالمتحدة 47 واقعة استهداف لقوافل الأمن الغذائى المتوجهة لأهالى غزة، كان من بينها 12 هجومًا فى الطريق إلى مخيمات النازحين، و12 هجومًا استهدفت القوافل بعد الوصول إلى المخيمات، بينما استهدف جيش الاحتلال عمال الإغاثة المتخصصين فى الأمن الغذائى 11 مرة داخل موقع المشروع الخاص بمؤسساتهم، واستهدف مستودعات الغذاء 6 مرات. نفذت أكثر الهجمات بالأسلحة النارية مباشرة، و13 هجمة شنت عبر غارات الطائرات، وتباينت الهجمات الأخرى عبر الطائرات بدون طيار، المدفعية والصواريخ والقنابل اليدوية، وغيرها من الأسلحة. وتباينت الخسائر المادية بين تدمير 10 مقرات للإغاثة الغذائية، و7 مستودعات للغذاء، و5 شاحنات، و4 عربات، و3 قوافل كاملة، ومبان ومستشفيات تم استخدامها كمقرات لتوزيع الغذاء. فى السابع من مارس الماضى، صرح المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، خلال مؤتمر صحفى، بأن عمال الإغاثة يواجهون مخاطر كبيرة بسبب الأعمال العدائية المستمرة، وتمت إعاقة العمليات الإنسانية بسبب القتال المستمر والقصف والتحديات الأخرى. وفى 14 مارس نفسه شدد كبير مسؤولى الإغاثة فى الأممالمتحدة على ضرورة حماية عمليات الإغاثة التى تشتد الحاجة إليها فى غزة، وسط تقارير تفيد بمقتل وإصابة عدد من الفلسطينيين أثناء انتظار المساعدات فى مدينة غزة، وجاء ذلك التطور بعد أن أدان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن جريفيث قصف مستودع ومركز لتوزيع المواد الغذائية فى جنوب رفح، والذى أدى إلى مقتل موظف واحد على الأقل فى الأونروا وإصابة 22 آخرين. وفى أغسطس الماضى، أعلنت الأممالمتحدة، فى تقرير، مستجدات الحالة الإنسانية رقم 211 عن تضاعف عدد البعثات والتنقلات الإنسانية التى منعتها السلطات الإسرائيلية من الوصول إلى غزة خلال شهر أغسطس. كما أعلنت الأممالمتحدة فى تقريرها رقم 221، الصادر فى 23 سبتمبر الماضى، أن 46٪ من البعثات المنسقة للمساعدات والفرق الإنسانية فى غزة تعرضت للمنع أو العرقلة، ما يجعله الشهر الأكثر صعوبة على مستوى الوصول الإنسانى منذ يناير 2024. «1608» استهدافات للقطاع الصحى استهداف 47 مستودع وشاحنة وعربة وقافلة تنقل الغذاء للنازحين «فى الحرب المستشفيات عبارة عن أهداف.. والأطباء تصلهم تهديدات بالقتل».. مع بداية الحرب، كان يعمل «حسن أبوالوفا» بالتناوب مع زملائه من الأطباء، 24 ساعة ويستريح فى ال24 ساعة التالية، كان لا يتنقل سوى بسيارات الإسعاف، التى لم تكن بمنأى عن الخطر، وبعد أيام قليلة، تم إلغاء فترات الراحة، وأصبحت الأشلاء والجرحى مشاهد معتادة، وبعد الاجتياح البرى لجيش الاحتلال الاسرائيلى، اقتربت النيران من المستشفى الإندونيسى حيث كان يعمل «حسن» فى شهر ديسمبر، وجاءت التعليمات بالإجلاء جميعًا، جرحى وأطباء إلى الجنوب، وعند حاجز نتساريم- وهو عبارة عن حاجز أمنى يفصل بين شمال وجنوبغزة- اعتقل عشرات الأطباء من قبل جيش الاحتلال. المصدر: بيانات الأممالمتحدة وبعد استهداف المستشفى الإندونيسى، انتقل عدد من الأطباء إلى مستشفى العودة المجاور له، واعتقل هناك العديد من الأطباء أيضًا من بينهم الدكتور عدنان البرش، والذى استشهد فيما بعد داخل الأسر. وبعدما خرجت أغلب مستشفيات الشمال من الخدمة، حاول الأطباء التوجه نحو الجنوب، وتلقى العديد منهم التهديدات والقتل، لم يكن من بينهم «حسن» الذى ظل صامدًا فى شمال غزة، يعمل داخل نقاط وعيادات صغيرة، حتى يتم ترميم المستشفيات التى اعتاد أن يتنقل بينها بعد ضرب كل واحد منها تلو الآخر، لكنه على تواصل دائم معها. اعتاد الأطباء بمعاونة المنظمات الإغاثية المحلية والدولية ترميم المستشفيات بعد قصفها، حتى وإن تعرضت للقصف أكثر من مرة، مثل مستشفى الشفاء، الذى استشهد فيه عدد كبير من الأطباء من بينهم صديق حسن، الدكتور «أحمد المقادمة»، وعلى الرغم من ذلك كان يستأنف بقية الزملاء العمل على توفير الرعاية الصحية الأولية بما تيسر من معدات وأدوية. وعلى الرغم من إصرار «حسن» على الصمود والبقاء فى شمال غزة، إلا أنه اضطر للنزوح مؤقتًا إلى جنوبغزة مرتين، قبل أن يعاود العمل فى مستشفيى كمال عدوان والعدوة، بعد استهداف المستشفى الإندونيسى، وتدميره للمرة الثانية.. ظل على مدار شهر كامل برفقة زملائه من الأطباء فى مناطق لا تصلح للعيش، على حد وصفه، قبل أن يعودوا للمرة الثالثة إلى المستشفى الإندونيسى، لترميم الطابقين الثالث والرابع اللذين تم إحراقهما بالكامل، وتدمير مبنى غسيل الكلى أثناء القصف. أما الآن فلا توجد سيارات إسعاف لتنقل الأطباء.. الراتب لا يكفى تأمين أبسط متطلبات المعيشة لأسبوع واحد، ينهى الطبيب عمله فى الثالثة مساءً، ويبدأ فى البحث عن الحطب لإشعال النيران، وتجهيز الطعام، والبحث عن مياه الشرب. منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الثانى من سبتمبر 2024، وثقت الأممالمتحدة 1608 وقائع استهداف للقطاع الصحى فى فلسطين، 80٪ منها فى قطاع غزة و17٪ فى الضفة الغربية. كان من بينها 570 استهدافًا لمنشآت صحية، بشكل متكرر، حتى دمرت البنية التحتية الصحية فى غزة تقريبًا بشكل شبه كامل، و227 استهدافًا منها داخل مخيمات للنازحين، أثناء عمليات الإنقاذ جراء القصف، و180 استهدافًا وهم فى الطريق إلى مواقع الإنقاذ والعمل، وحدث نحو 123 استهدافًا للطواقم الطبية داخل البيوت أثناء القصف، و102 استهداف داخل الإدارات الصحية، و74 استهدافًا فى الفضاء المفتوح، و35 استهدافًا داخل نقاط التفتيش. تم تنفيذ 44٪ من الهجمات بالأسلحة النارية بشكل مباشر، و21٪ من الهجمات عبر القصف الجوى بالطائرات، وتنوعت بقية الهجمات عبر المدفعية والطائرات بدون طيار والصواريخ والهاون، وغيرها من الأسلحة. وثقت الأممالمتحدة استشهاد 486 عاملًا فى المجال الصحى، وإعاقة ورفض وصول 366 آخرين لمواقع الإغاثة، واعتقال 340 آخرين، وتضررت 273 منطقة مجاورة للمنشآت الصحية، وأصيب نحو 144 عاملًا صحيًا آخر خلال تلك الفترة، وتعرض 109 آخرون للتهديد بالقتل. تم اقتحام المنشآت الصحية 69 مرة، وتم تدمير 27 مؤسسة صحية بالكامل، واحتلال 13 منشأة صحية، كما وثقت بيانات الأممالمتحدة سرقة ونهب 5 منشآت صحية. فيما تعرض 26 من العاملين فى القطاع الصحى إلى اعتداءات جنسية، كان أولها فى الخامس عشر من نوفمبر حينما احتجز جيش الاحتلال الإسرائيلى المرضى والنازحين والعاملين فى المجال الصحى، وجردهم من ملابسهم وعصب أعينهم، ونقلهم من مستشفى إلى موقع آخر، وهو ما تكرر فى أربع وقائع أخرى مع ضحايا آخرين، بتواريخ مختلفة. فى 23 من سبتمبر الماضى وثقت الأممالمتحدة فى تقرير مستجدات الحالة الإنسانية فى غزة رقم 221، تفاقم الأزمة الصحية مع اقتصار عدد المستشفيات العاملة فى القطاع على 17 من أصل 36 مستشفى – وجميعها يعمل بشكل جزئى، بالإضافة إلى 57 منشأة فقط من أصل 132 من منشآت الرعاية الصحية الأولية، وذلك وسط نقص حاد فى الوقود والأدوية واللوازم الأساسية. ومنذ شهر يناير 2024، سُجلت 16 حادثة شهدت تعرُّض مركبات الأممالمتحدة للقصف المباشر فى غزة، والتى كانت تستخدم لنقل الاحتياجات العاجلة والإسعاف. «131» سيارة إسعاف مدمرة رسوم- خالد صلاح «لم يسلم إنسان ولا حيوان ولا حجر ولا شجر ولا أى شىء موجود بغزة إلا وتضرر نتيجة هذه الحرب».. يحاول «أبوأسامة»، ضابط الإسعاف الذى لا يزال يعمل فى شمال غزة، وصف الواقع الذى يعيشه منذ بداية الحرب. لم يسلم عمال الإسعاف من الاستهداف، فمنذ اليوم الأول تعرض المسعفون ومعداتهم إلى القصف المباشر، واستشهد الكثير من المسعفين والضباط المسعفين أمام «أبوأسامة»، مما يجعله عرضة دائمًا للضغوط النفسية والمخاطر. لا يحمل «أبوأسامة» على عاتقيه فقط أحمال الموت المحتمل فى كل لحظة، أو أشلاء الشهداء، وأجساد المصابين، بل يحمل فى قلبه خوفًا كبيرًا على ذويه الذين يتركهم خلفه فى مراكز الإيواء ويمضى، فالكل سواسية فى الحرب والتشريد. الإبادة الجماعية ليست مجرد مصطلح مبالغ به فى نظر أبوأسامة، فالبيوت التى تهتز فوق رؤوس ساكنيها دون سابق إنذار، واستهداف جميع أوصال الرحمة لا يمكن أن يطلق عليه غير ذلك. فى ثانى أيام الحرب، وأثناء تواجده فى الميدان، تلقى «أبوأسامة» رسالة تحمل خبر إصابة أبنائه الثلاثة، واستشهاد أبناء عمومته، أثناء مرورهم بأحد الشوارع، لم يعلم وقتها أبوأسامة ماذا يفعل، هل يسعف أبناءه، أم ينتشل بقايا الأشلاء الممزقة المتناثرة حوله، لكنه قرر الاستمرار فى العمل فى النهاية «الحمد لله الأولاد كانوا فى حالة إصابة.. وقام مسعفون آخرون باللازم». وثقت الأممالمتحدة 99 واقعة تضرر لوسائل النقل الصحى، بينما دمرت 15 أخرى تمامًا، واختطفت واحدة. ولم يسلم المسعفون من القتل أو التهجير أو الاعتداءات الجنسية أو إعاقة عملهم، فوثقت الأممالمتحدة فى التاسع والعشرين من ديسمبر 2023، وأثناء تفتيش قافلة تابعة لجمعية الهلال الأحمر الفلسطينى عائدة من أحد المستشفيات، اعتقال جنود الاحتلال مسعفًا للمرة الثانية. وقد تعرض للضرب والتهديد والتجريد من ملابسه وتقييد يديه، وبعد إطلاق سراحه أُجبر على السير فوق نقطة التفتيش لأكثر من كيلومترين. وفى الخامس والعشرين من فبراير 2024، منع جيش الاحتلال قافلة إجلاء تابعة للصليب الأحمر والأممالمتحدة تحمل مرضى من أحد المستشفيات التابعة للصليب الأحمر، على الرغم من التنسيق المسبق مع السلطات الإسرائيلية. وتم إجبار المرضى والموظفين على النزول من سيارات الإسعاف، وتم تجريد المسعفين من ملابسهم، واحتجاز ثلاثة مسعفين منهم عند نقطة التفتيش، مما أدى إلى تأخير القافلة لأكثر من سبع ساعات. وتم إطلاق سراح أحد المسعفين بعد فترة وجيزة. ولم يتم إطلاق سراح المسعفين الآخرين إلا فى 15 إبريل الماضى. «بالنسبة لإسرائيل كلنا أهداف.. لا تفرق بين مدنى وعسكرى.. أو مسعف، أو قافلة إغاثة».. يقول «أبوأسامة» لم تدخر إسرائيل جهدًا لقطع جميع أوصال الرحمة خلال عام من الحرب، لم يسلم الجميع بداية من النازحين، الذين لاحقتهم فى كل مخيم سواء قديمًا أو جديدًا يحاولون تأسيسه لالتقاط أنفاسهم مرة أخرى، أو وكالات الإغاثة التى تحاول مساعدتهم، أو حتى قوافل تنقل إليهم ماء أو دواء أو غذاء، ليبقى من بقى منهم على قيد الحياة، أو أطباء أو مسعفين ينظرون إليهم بعين الرحمة.. الجميع مستهدف.. الجميع يباد. نزح 2 مليون مواطن هم جميع أهالى غزة تقريبًا، دُمرت جميع المبانى والبيوت كليًا أو جزئيًا، استشهد أضعاف أعداد من استشهدوا فى جميع حروب العالم.. وللأسف، ما زالت الحرب مستمرة، وقطع أوصال الرحمة منهج وغاية.