فى ظل الأزمات السياسية والاقتصادية المتسارعة التى يشهدها العالم؛ أصبحت المخاطر التى تهدد الاقتصاد العالمى أكثر تعقيدًا وتأثيرًا، وتطال كافة القطاعات الاقتصادية. وإلى جانب التحديات التقليدية كتقلبات الطلب والتغيرات فى السياسات التنظيمية؛ يواجه قطاع الطيران العالمى صعوبات تشغيلية متزايدة جراء تبعات جائحة كورونا، فضلًا عن الظروف السياسية والاقتصادية المعقدة بالوقت الراهن. وتتمثل أبرز المخاطر التى تواجه القطاع حاليًا فى التقلبات الملحوظة فى أسعار وقود الطيران، وغلق المجال الجوى للعديد من البلدان؛ بسبب الحروب والتوترات الجيوسياسية حول العالم. يتطلب قطاع الطيران اعتماد استراتيجيات مرنة ومبتكرة؛ لضمان استدامته ومرونته فى مواجهة هذه الأوضاع الصعبة. تعافٍ متواصل يواصل قطاع الطيران العالمى تعافيه بوتيرة سريعة، وذلك بعد أن تكبد خسائر تشغيلية واسعة جراء الإغلاق الاقتصادى العالمى بسبب جائحة كوفيد-19 فى عام 2020، وشهد العالم فى عام 2023 انتعاشًا ملحوظًا فى الطلب على السفر الدولى؛ إذ يسعى المسافرون لتعويض الوقت الضائع جراء الجائحة فيما يعرف ب«سفر الانتقام». وبحسب الاتحاد الدولى للنقل الجوى، شهدت حركة الركاب الدولية زيادة بنسبة 10.1٪ على أساس سنوى فى شهر يوليو 2024، مستمرة فى الاتجاه الإيجابى الذى بدأته فى يناير من العام الجارى، رغم أن النمو بدأ يتباطأ منذ إبريل 2021، وقد يستغرق وقتًا أطول للعودة إلى مستويات ما قبل 2020. ما يوضح ذلك جليًا ارتفاع مؤشر إيرادات الركاب لكل كيلو متر - وهو مقياس رئيسى لتتبع أداء الصناعة - إلى 94.1٪ من مستويات عام 2019. وحقق مؤشر إيرادات الركاب لكل كيلو متر زيادة قوية بنسبة 8٪ فى شهر يوليو 2024، على أساس سنوى. فى الوقت نفسه سجل مؤشر آخر، وهو عدد الكيلومترات المتاحة للمقاعد، نموًا بنسبة 7.4٪ على أساس سنوى فى يوليو، وكل ذلك يعكس بلا شك زيادة فى الطلب على السفر الجوى. فى الوقت نفسه، نجحت شركات الطيران الدولية فى تعويض خسائرها الناجمة عن جائحة كورونا، محققة صافى أرباح قدره 27.4 مليار دولار فى عام 2023، مقارنة ب6.9 مليار دولار فى عام 2022. وبشكل لافت، جاءت الشركات من منطقتى أمريكا الشمالية وأوروبا على قائمة الشركات العالمية الرابحة؛ إذ تشهد المنطقتان زخمًا قويًا فى حركة السفر منهما وإليهما بعد عام 2022. مخاطر جديدة بينما يتعافى أداء قطاع الطيران العالمى، يواجه الأخير مخاطر مستجدة غير مسبوقة فى الوقت الراهن؛ فرضتها جملة التطورات الجيوسياسية والاقتصادية غير المواتية التى يمر بها العالم فى العامين الأخيرين. فبالنسبة للمخاطر الجيوسياسية، تستمر الحرب فى أوكرانيا وتتصاعد التوترات فى الشرق الأوسط، على نحو أدى إلى زيادة حالة عدم اليقين السياسى والاقتصادى العالمى. وقد أدى اندلاع الحرب بين روسياوأوكرانيا فى فبراير 2022 إلى إغلاق الأجواء بين البلدين، وفرض عقوبات اقتصادية غربية على روسيا؛ اضطرت غالبية شركات الطيران الأوروبية على إثرها لتجاوز الأجواء الروسية، ولأن تسلك مسارات جوية أكثر كلفة. فى ذات السياق، أسفر تصاعد التوترات السياسية بالشرق الأوسط، منذ اندلاع حرب غزة فى أكتوبر 2023، عن إغلاق المجال الجوى بعدد من بلدان المنطقة، وإلغاء العديد من الرحلات الجوية الدولية. وقد تسببت التوترات بالشرق الأوسط فى تقليص المقاعد المتاحة مع حدوث انخفاض كبير فى إيرادات شركات الطيران. وقد تفاقم الأمر بشكل أكبر مع تصاعد التوترات بين إيران وحزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى بالفترة الأخيرة؛ ليتجه مزيد من شركات الطيران العالمية إلى تعليق رحلاتها أو تجنب المناطق المتوترة بالمنطقة. إلى جانب الأوضاع الجيوسياسية المضطربة، لا يزال الاقتصاد العالمى يعانى من تحديات جمة تتجلى مؤشراتها فى ارتفاع مستويات الديون وزيادة معدلات التضخم لمستويات غير مسبوقة بالبلدان النامية، بالإضافة إلى احتمالية حدوث تباطؤ طويل الأمد لنمو الاقتصادات الكبرى، خاصة الصين وبلدان الاتحاد الأوروبى، يأتى ذلك بسبب تبعات جائحة كورونا والتوترات الجيوسياسية المنتشرة فى أنحاء مختلفة بالعالم. كل هذه التحديات خلقت إشكاليات مستحدثة للعمليات التشغيلية لقطاع الطيران العالمى؛ تتمثل أبرزها فى صعوبة تحويل الحكومات لمستحقات شركات الطيران الدولية من النقد الأجنبى إليها. هذه ليست المشكلة الوحيدة، فقد تكون إيرادات شركات الطيران مرشحة للتراجع فى بعض المناطق الجغرافية، خاصة الشرق الأوسط؛ إذ بات العديد من الأفراد أقل قدرة على تخصيص أموال للإنفاق على جوانب الترفيه والسفر، فى ظل تراجع الدخول الحقيقية وتزايد الضغوط التضخمية. فى سياق آخر، تواجه شركات الطيران زيادات قوية فى التكاليف؛ جراء ارتفاع أسعار وقود الطيران منذ عام 2022؛ بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وبينما نجحت بعض شركات الطيران فى التحوط ضد تقلبات الأسعار عبر شراء الوقود بكميات وأسعار ثابتة؛ فإن شركات دولية أخرى، بما فى ذلك بعض شركات الطيران الأمريكية، لم تلجأ لهذه الاستراتيجية؛ مما جعلها تتحمل تكاليف إضافية غير مسبوقة. قيود مستمرة شكلت جائحة كورونا واحدة من أبرز أزمات قطاع الطيران العالمى بالعقدين الأخيرين، ولا يزال تأثيرها مستمرًا حتى الآن، ويقدر «الاتحاد الدولى للنقل الجوى» أن الأزمة ألغت نحو 20 عامًا من نمو حركة الركاب، ومن المتوقع أن تظل الحركة أقل بنسبة 6٪ من التوقعات السابقة حتى عام 2040. وقد خلقت الجائحة صعوبات مستمرة فى إدارة العمليات التشغيلية لشركات الطيران؛ جراء تعطل سلاسل التوريد ونقص العمالة المتخصصة؛ الأمر الذى يتناسب مع ظهور نحو 50 مسارًا جويًا جديدًا على المستوى العالمى؛ من المفترض تلبية الطلب الخاص بها. وقد تسببت سنتان من إغلاق الاقتصاد العالمى وقيود السفر فى تعطيل سلاسل الإمداد، وبطء أوقات تسليم الطائرات من الشركات المصنعة لشركات الطيران الدولية. بالإضافة إلى ما سبق، تواجه شركات الطيران تباطؤًا فى تسلم قطع الغيار؛ بسبب إفلاس العديد من الشركات المصنعة، ونقص المواد الأساسية الموردة كالأسلاك والإلكترونيات والألومنيوم وغيرها. فيما تواجه صناعة الطيران أيضًا نقصًا ملموسًا فى القوى العاملة منذ جائحة كورونا، يشمل ذلك مجموعة واسعة من الوظائف، بما فى ذلك الطيارون والمهندسون ومراقبو الحركة الجوية وفنيو الصيانة- وفق شركة «جلوبال ماركت إنسايتس» (Global Market Insights). الآفاق المستقبلية تتجه أنظار قطاع الطيران نحو المستقبل، بينما يواجه تحديات متزايدة بسبب الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة غير المواتية. رغم ذلك، تكشف توقعات الاتحاد الدولى للنقل الجوى أن أداء القطاع سيبقى صامدًا حتى مع المخاطر المتزايدة التى يواجهها فى الأمد القصير. ومن المتوقع أن تتحسن ربحية صناعة الطيران العالمية فى عام 2024 إلى 30.5 مليار دولار، مقارنة بأرباح قدرها 27.4 مليار دولار فى عام 2023. ويأتى نمو الأرباح المتوقعة وسط توقعات ارتفاع الإيرادات الإجمالية للصناعة إلى 996 مليار دولار بنهاية عام 2024، مقارنة ب908 مليارات دولار فى عام 2023. ولكن اللافت أن إيرادات نشاط الشحن الجوى ستنخفض بشدة من 138 مليار دولار فى 2023، إلى 120 مليار دولار فى عام 2024؛ مما قد يعكس، ضمن أسباب أخرى، تلاشى طفرة الاعتماد على النقل أثناء جائحة كورونا. رغم التعافى الملحوظ لقطاع الطيران العالمى، سواء من حيث حركة الركاب أم الإيرادات؛ فإن أداء المناطق الجغرافية سيتفاوت بشكل ملحوظ. فبينما من المتوقع أن تسهم منطقة آسيا والمحيط الهادئ بنصف النمو العالمى لمؤشر إيرادات الركاب لكل كيلو متر فى العام الجارى، خاصة مع استمرار تعافى الأسواق المحلية فى الصين واليابان وأستراليا، ستكون منطقة الشرق الأوسط الأكثر تضررًا بسبب المخاطر السياسية والاقتصادية العالمية. على الأرجح أن يحافظ قطاع الطيران بمنطقة الشرق الأوسط على نموه، وإن كان بوتيرة أبطأ؛ ذلك بسبب تصاعد المخاطر الجيوسياسية، ولاسيما مع احتمالية تحول التوترات إلى حرب إقليمية شاملة. فى حين سيتعافى أداء قطاع الطيران فى أوروبا أيضًا؛ شرط استمرار الطلب القوى خلال العام الجارى، والتغلب على مشكلات سلسلة الإمدادات. فيما لا يمكن أيضًا تجاهل احتمالية تأثير الحرب الأوكرانية سلبًا فى أسواق الطيران الأوروبية. ختامًا، يمكن القول إن قطاع الطيران العالمى ينتعش بوتيرة سريعة؛ ليقترب من بلوغ الأداء المحقق قبل جائحة كورونا، سواء من حيث عدد الركاب أم مستويات ربحية شركات الطيران. مع ذلك؛ من المحتمل أن تؤثر المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية فى العمليات التشغيلية لكثير من شركات الطيران الدولية، ولاسيما العاملة عبر المسارات الجوية للشرق الأوسط؛ مما سيبطئ عودة حركة الركاب لمستوياتها ما قبل الجائحة. ينشر بالتعاون مع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة