«الحياة رحلة طويلة من المتاعب، والسعادة فواصل قصيرة بينها نفحات فرح محلاة بالصبر ليستكمل المواطنون المواجهة بحلبة ملاكمة، يرتقونها عندما يدق الجرس، يتلقون ضربات موجعة من الزمن، يتألمون كثيرا، يترنحون أحيانا ثم يتهاوون ببطء، وفي النهاية يموتون خاسرين».. معادلة الحياة لدى نماذج من البشر، يستعرضها الروائي أشرف العشماوي في روايته الجديدة «الجمعية السرية للمواطنين»، الصادرة حديثا عن «الدار المصرية اللبنانية»، حيث يأخذنا إلى منطقة «عزبة الوالدة» (في حلوان) لينسج هناك شخصيات روايته من «المهمشين»، الذين يتشاركون ويتشابكون في علاقات من الأوجاع والأحلام، شخصيات يمكن مصادفتها بشكل يومي، يعيشون في المسافة الفاصلة بين الحقيقة والخيال، ظلوا صامتين حتى فك المؤلف عقدة لسانهم، ليحكوا ما أرهقهم كتمانه. تأخذنا الرواية إلى عوالم بطلها معتوق الرفاعي، الفنان التشكيلي صاحب المسيرة الفنية المغمورة، وجيرانه ب«العزبة»: سراج البدري (عاطل)، سعيد راديو (كهربائي)، فتحي السماوي (موظف بالبلدية)، فارس عودة (عامل الصرف الصحي)، عبده العربي (جوكي)، خليل البنهاري (طبيب)، شاكر الجهيني (ساعي البريد)، زكي الساكت (عامل نظافة)، أسعد جرجس (كومبارس)، مينا (طالب بكلية الهندسة)، راوية (معلمة التاريخ)، المعلم غالي (تاجر الحشيش)، السيدة أنهار (بائعة الحلوى)، شاهين والي (محام). تعود الرواية إلى زمن السبعينيات، متوقفة عند جريمة حقيقية، هي سرقة لوحة «زهرة الخشخاش» للفنان الهولندي فينسنت فان جوخ، من متحف محمد محمود خليل بالقاهرة، بعد أن رسم بطل الرواية «معتوق» لوحة مشابهة لها تماما، بالاتفاق مع فنان آخر هو غريب أبوإسماعيل، حيث تضاهي زهرة الخشخاش المقلدة اللوحة الأصلية في جمالها وخطوطها وألوانها، ثم نفذ بمعاونة آخرين جريمته استبدال اللوحة الأصلية باللوحة المزيفة. نفّذ الفنان المغمور لوحته وجريمته لأنه «لم يعد يستطيع العيش على هامش زمن لا يؤثر فيه ولا يتأثر به، ولا يريد الرحيل بلا ذكرى تنبئ عن إبداعه مثل كل الفنانين». ولكونه يؤمن أن «الحياة مثل فيلم سينمائي طويل لا يصح أن نكون طوال عرضه من المشاهدين، ومنذ بدأ في تقليد لوحة زهرة الخشخاش قرر القيام ببطولة الفيلم وحده.. لن يظهر ككومبارس في لقطة عابرة، أو حتى نجم كبير مشارك بدور صغير، سيكون البطل الذي لا يُضبط ولا يموت حتى مشهد النهاية». إلا أن حلم البطولة يتهاوى، فنرى أن «زهرة الخشخاش» التي رسمها صارت مملوكة لغيره، تماما مثل ابنته التي التي أنجبها ورباها واختار لها أيضا اسم «زهرة» نسبت لغيره أيضا. يؤكد المؤلف في مواضع كثيرة من روايته على أحوال هؤلاء «المهمشين» سواء بالوصف المباشر أو الرمزي، فهو يبدأ إهداءه «إلى هؤلاء.. الذين لم يعيشوا الحياة بعد وكانوا يحاولون.. النجاة من أيامها فقط». ثم يخبرنا أنهم «يسيرون منذ سنوات على هامش الزمن تظللهم شمس التهميش»، يحدثنا عن «الأمل كأحد المشاعر التي بداخلهم وهو الذي يدافع عن وجودهم، يلهمهم القدرة على تحمل الحياة في مواجهة ضغوطها». كما يأخذنا المؤلف عن طريق السرد الرمزي الموازي قائلا: «علا نباح كلبة تلد بصعوبة، تهب حياة لجراء كثيرة لا يُعرف مصيرها، راح (معتوق) يتابعهم بحسرة هل يكملون هائمين بين أكوام القمامة وبرك المجاري، أم تنتهي حياتهم بعد شهور قليلة؟». ينمو الأمل لدى بطل الرواية ويتحول لديه إلى «جنون غريب يدفعه للأمام في حين كل شيء من حوله عاقل لدرجة الملل»، لذا نراه متلحفا ب«جنون الأمل»- بعد إيداعه مستشفى الأمراض النفسية بدعوى الجنون- مُقررًا رسم أهل «عزبة الوالدة» في لوحة كبيرة بهمومهم ومشاكلهم ونواقصهم ولحظات انكسارهم الطويلة، وانتصاراتهم الهزيلة في الحياة، ومشاكلهم العالقين فيها كل يوم، يجرونها كأثقال الحديد، فلا أقل من أن يحررهم منها بلوحته. مع مرور 10 سنوات وخروج البطل من المستشفى، وبعدما كان هدفه هو رسم لوحة؛ ومضت له فكرة تأسيس جمعية سرية للمواطنين، يعيد من خلالها رسم شخصيات سكان العزبة في الواقع، بعدما لم يجد شخصا على حاله، فكل المواطنين الذين وضعهم في لوحته تغيروا، وعليه أن يعيد تجسيدهم، أراد لهم ألا يعيشوا ما تبقى من حياتهم في إطار أجبرهم الزمن على الدخول فيه. تسرد الرواية: «في كل يوم يمر عليه كان يجد شخصية من الجمعية السرية للمواطنين تناديه، تلح على تفكيره وتضغط على عقله لتتحرك فرشاته، شغلته التفاصيل والملامح واللمحات الغريبة في حياة كل منهم، تحولاتهم من ماضيهم الغريب لمستقبلهم المبهم، أسهبت كل شخصية في وصف نفسها له شارحة طموحاتها وآمالها البسيطة، هامسة في أذنيه بما يغريه لتجسيدها في لوحته». ينتهي «معتوق» من رسم لوحة الجمعية السرية، الكل حاضر وموجود فيها، والملامح متطابقة مع سكان العزبة، ومعها تصبح الجمعية واقعا، جمعية لا يدفع فيها المشترك أي مصاريف، لم يكن «معتوق» في حاجة لوقت طويل لإقناع المواطنين من أهل العزية بالانضمام لجمعيته، رغم أنه تحدث مع كل منهم على انفراد، اختار من رسمهم باللوحة.. فوافقوا، وكأنه يرسمهم في وضع جديد لمرة ثانية بالحياة.