لا يقتصر غياب الممارسة الديمقراطية فى مصر على الحكومة والحزب الحاكم، وإنما يمتد ليشمل جميع المؤسسات السياسية والاجتماعية، خصوصاً داخل الأحزاب السياسية، المعارضة منها وغير المعارضة، وذلك باستثناءات قليلة جداً وربما نادرة. ورغم يقينى بأن المسؤولية الرئيسية عن هذا الغياب تقع على عاتق النظام الحاكم، الذى رفض توفير بيئة سياسية وقانونية حاضنة لبذرة التعددية الحزبية وتعمد التدخل فى شؤون الأحزاب لإثارة الخلافات والانشقاقات الداخلية، إلا أن هذا السلوك المعيب لا يفسر وحده كل ما يجرى داخل أحزاب «المعارضة» فى مصر، خاصة ما يتعلق منه بالممارسة الديمقراطية، بدليل اختلاف أوضاعها وسلوكها رغم تعرضها لنفس الخلل البنيوى الذى يتسم به النظام ككل. ويكفى أن نقارن فى هذا السياق، على سبيل المثال وليس الحصر، بين تجربتى الحزب العربى الناصرى وحزب الوفد لندرك هذه الحقيقة بوضوح تام. فغياب الممارسة الديمقراطية كليا داخل الحزب العربى الناصرى، ومنذ نشأته، أفضى إلى وضع بالغ الشذوذ، وهو عدم اختيار رئيس جديد للحزب رغم تجاوز عمر رئيسه الحالى، الأستاذ ضياء الدين داود، 85 عاماً وإصابته بمرض ألزهايمر (خرف الشيخوخة) منذ ثلاث سنوات. وهو وضع لم يستفد منه، وفق تعبير الأستاذ أحمد الجمال، أحد أقطابه البارزين، فى حواره مع الأستاذ إبراهيم عيسى على قناة «أون. تى. فى»، مساء الأربعاء الماضى، سوى «أنصاف القادة وأنصاف الموهوبين، إلى أن تحول الحزب إلى جثمان ينتظر التشييع». ومن المعروف أن أزمة الحزب الناصرى تفاقمت كثيرا بعد قبول أمينه العام «هدية الحزب الحاكم»، بتعيينه عضوا بمجلس الشورى وتقديم السفير «أمين يسرى»، أحد أبرز وأنقى شخصياته، استقالته. أما حزب الوفد، الذى لم يسلم هو الآخر من مؤامرات نظام حاكم كادت تقضى عليه تماما فى مرحلة من المراحل، فقد استطاع أن يلملم أطرافه، وتمكن مؤخرا من تنظيم انتخابات شفافة سقط فيها رئيسه، وهو أمر لا نظير له فى تاريخ الحياة السياسية فى مصر، وبالتالى سيسجله التاريخ بأحرف من نور للأستاذ محمود أباظة، وأتت بقيادة جديدة، ربما تكون أكثر قدرة على لم الشمل. وكان هذا الحدث الديمقراطى الفريد كافيا فى حد ذاته لإعادة الاعتبار للوفد وتشجيع الطيور المهاجرة منه على العودة إليه، بل وبروزه كأحد الأقطاب الجاذبة للأغلبية الصامتة المستسلمة، وهو تطور مهم جدا على الساحة السياسية المصرية لم تتكشف بعد كل أبعاده وجوانبه. ويبدو واضحا من هذه المقارنة البسيطة أن غياب الممارسة الديمقراطية أفضى إلى سقوط الحزب العربى الناصرى وانهياره وإخراجه كليا من المشهد السياسى، وأن استحضارها، بعد طول غياب، أعاد الحياة لحزب الوفد، بعد طول موات، ليبرز من جديد كقطب جاذب ومنشط لحياة سياسية كانت الدماء قد بدأت تجف تماما فى عروقها المتيبسة. وهذا درس مهم جدا يتعين على أحزاب وقوى المعارضة فى مصر أن تعيه جدا. فقدرتها على إحداث التغيير الذى يتطلع إليه شعب مصر باتت متوقفة على شرطين لا ثالث لهما، الأول: تمكنها من إعادة بناء هياكلها الداخلية على أسس ديمقراطية سليمة، وهو شرط ضرورى كى تستعيد مصداقيتها فى الحديث عن الديمقراطية، والثانى: التنسيق فيما بينها لتأسيس نظام ديمقراطى فى مصر، وهو شرط ضرورى لإنجاز مهمة لا يستطيع أحد أن يقوم بها منفرداً.