هرج ومرج، وحشود أمنية كثيفة تحاول السيطرة على حرائق الغضب المشتعلة فى نفوس المحامين، الصدام المؤسف بين حراس الحقيقة وسدنة العدالة، الذى اُستخدمت فيه الشتائم والصفعات والشلاليت!. مبنى المحكمة يغوص فى التعاسة كشمس تُعلن حزنها النهائى قبل الغروب. وميزان العدالة المحفور على الجدار يجاهد كى يغادر الحائط ويرحل عن مصر كلها ملتحقا بالسماء. الانفعال مسيطر على الجميع، والغضب حية سامة تُسقم البدن وتُسمم الروح. وأنا أترنح من فرط الحزن فى طريقى إلى قاعة المحكمة كى أدلى بشهادتى. أقف فى منتصف القاعة، أحاول أن أتكلم، لكن الكل يتكلم ولا أحد يسمعنى. أحاول أن أصرخ، لكن الكل يصرخ ولا أحد يسمعنى. أحاول أن أبكى، لكن الكل يبكى ولا أحد يسمعنى. مصر كلها هنا، فى قاعة المحكمة، تبكى وتصرخ وتتألم، ولا أحد يسمع شكوانا إلا خالقنا. والرحمة جدار أصم عبثا ما نطرقه، غرفة مقفلة لا ينفذ منها ريح ولا ضوء ولا صوت!. ..................... سيدى القاضى، أنا حاضر اليوم عن العدالة الغائبة فى بلد أهدت العالم يوما معنى «الضمير». المسألة أكبر بكثير من اعتداء محام على قاض، أو إعادة الهيبة إلى رجال القضاء. حينما انهالت اللكمات فى حصن العدالة كان ذلك إيذانا بأن فكرة العدالة فى مصر توشك على الاحتضار. وأننا ندرك فى أعماق (لا وعينا الجمعي) أننا لن نحصل على حقوقنا إلا بأيدينا (لو استطعنا) أو نتظاهر بالامتثال وقلوبنا تضمر الحقد العميق. أنا لا أدافع عن الخطأ، ولكن العدالة الجزئية قد تصبح أسوأ من الظلم، لأنها ترتدى الأقنعة المزيفة وتتظاهر بأنها الحقيقة، وتمسك بتلابيب الجناة المزيفين تاركة الجانى الحقيقى طليقا خارج سلطة القانون. المتهم الحقيقى فى قضيتنا هو الغضب الكامن فى الصدور، غضب أشعله غياب العدالة الاجتماعية فى مجتمعنا الكبير. يقولون إن العدالة مفهوم أخلاقى يقوم على الحق والأخلاق والعقل والقانون. أين العقل فيما يحدث فى مصر من تكوين الثروات الخرافية فى بضع سنين؟ وامتلاك البعض مليارات فيما لا يجد معظم الشعب القوت؟ وبيع الغاز والأراضى والقطاع العام لهم بالبخس، وإصدار قوانين تعصف بالفقراء من أجل التنافس بينهم فى ترتيب الأثرياء!، مع أن المسألة لا تعدو شهوة أرقام! إذن ما الذى يشتريه الثلاثون مليارا ويعجز عن شرائه العشرون!؟ يا حضرة القاضى الحرائق لا تشتعل وحدها دون عود ثقاب ومادة قابلة للاشتعال. فلا تحصروا القضية فى نطاقها الضيق، وتلفّوا المشنقة حول عود الثقاب!. المتهم الحقيقى هو من أغرقوا مصر كلها بالمادة القابلة للاشتعال. لا يمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد إلا لو كان وكيل النيابة غاضبا والمحامى غاضبا والقضاة غاضبين وجموع المحامين غاضبين. مصر كلها غاضبة يا سيدى القاضى، فابحثوا عمن أغضبها وحاسبوه.