«النوبارية».. منطقة يحاصرها ثالوث الفقر والإهمال والمرض، منذ زمن بعيد وتبتعد عنها كل سبل العيش التى تكفل آدمية المواطنين بها، بدءاً بالجبل، المقامة عليه معظم البيوت والذى أصبح بمثابة «الشبح الذى ينتظر الأهالى أن يتحول إلى دويقة أخرى» بالمحافظة، مروراً بالأرض التى يسكنها بعض من فرضوا سيطرتهم على المكان ليتقاسموا الأرض مع الأهالى وهم تجار ومتعاطو المخدرات المقيمون خلف كل بلوك من بلوكات المنطقة بالإجبار. والبيوت التى يعلو منها صوت الفقر تستغيث من ارتفاع أسعار الإيجارات التى لا تتناسب مع الرواتب ولا الوضع الراهن للنوبارية، والذى شبه فيه الأهالى ارتفاع سعر الإيجار ب«إتاوة» تفرض عليهم. وسط مياه الصرف والثعابين وبيوت تآكلت إما من حفر الثعابين والحشرات أو مياه الصرف الصحى، التى أصبحت شريكاً لكل سكان النوبارية فى منازلهم وبعد أن تخرج من هذه المساكن تستقبلك الترعة بالأحضان الشائكة التى إن لم تستطع أن تتحكم بها ابتلعتك كما ابتعلت العديد من الأطفال هناك إما عند هروبهم من عربات النقل الثقيل أو لانقطاع التيار الكهربى عن معظم أعمدة الإنارة التى يستوعبها الطريق. ومع كل ذلك فإن معظم أهالى المنطقة يقضون ليالى طويلة فى أقسام الشرطة نتيجة للفقر الذى يمنعهم من سداد قيمة إيجار مساكنهم مما يجعل الشرطة تلقى القبض على صاحب الأسرة أو زوجته فى حالة عدم تواجده وكأنهم يدفعون ضريبة الفقر إيجاراً أعلى من رواتبهم، وإقامة بالأقسام. فى البداية قال على محمود مالك سوبر ماركت بالمنطقة: «إن الجبال المبنى عليها المصانع والبيوت بالمنطقة أصبحت تهددنا يوماً بعد الآخر ونخشى مع مرور الوقت أن تسقط بنا مثلما حدث مع بيوت الدويقة بالقاهرة»، وتابع: مشكلتنا لا تقتصر فقط على مجرد وجود الجبال التى تسد طريق المواصلات الأقرب إلينا مما يدفعنا إلى اللجوء لطريق الترعة الذى يبتلع أولادنا كل يوم، ولكن مياه الصرف أيضاً أصبحت ملازمة لنا كل يوم، وإحنا مبنحلمش بالقصور، عاوزين نعيش فى الشارع حتى بس بصحتنا وبأسلوب يحسسنا بأننا بنى آدميين». «أبوس إيديكو الحقونى يا ولاد.. نفسى أموت وأنا حاسس إنى بنى آدم». هكذا أسرع إلينا عم محمود 70 عاماً فى بكاء شديد ولسانه لا ينطق إلا بجملة واحدة «يرضيكو ال8 أرغفة عيش بجنيه ليه محدش بيحس بينا»، وتابع: دقينا كل الأبواب لكن محدش سأل فينا هما بيتبعوا معانا سياسة خليهم يعووا زى الكلاب. وبدأت صباح فهمى أحد السكان حديثها ل«إسكندرية اليوم» بغضب شديد قائلة: «إن الحشرات وجميع أنواع الزواحف تشاركهم مساكنهم والفئران التى تستعد لنقل أى مرض فى أى وقت» وتساءلت: إزاى المسؤولين بيعرفوا يناموا فى بيوتهم وسط عيالهم وإحنا فينا اللى فى قسم شرطة عشان فقير واللى المجارى كلت صحته». وأوضحت: حاولنا مرات كثيرة الوصول إلى المسؤولين والرد الوحيد علينا عندما كنا نذهب إلى الحى لمقابلة رئيسه هو أننا إن لم ننصرف بشكل فورى سيقوم رجال الأمن بضربنا دون تفرقة بين رجل وامرأة». ووسط صراخ الأهالى، الذى تعلو فيه الشكاوى متسابقة فى الوصول إلينا ظناً منهم أننا طوق النجاة لأنهم لم يجدوا من يتفقد أحوالهم أو شعروا لأول مرة بأن هناك من يسعى لحل مشاكلهم، ترى صناديق الكهرباء التى رفضت أن يوضع عليها غطاء فاستجابت الحكومة لرغبتها وتركتها عارية تأخذ فى طريقها أى طفل يمر من أمامها، ليؤكد الأهالى أن هذه الصناديق العارية صعقت العديد من الأطفال والكبار أيضا قائلين «الموت عندنا بثلاث طرق الصرف الصحى أو غرق فى الترعة أو صعقاً بالكهرباء من الصناديق المفتوحة». وقال، محمد مصطفى، أحد السكان: «حاولنا كتابة العديد من الشكاوى التى لم نجد لما رداً وكأن سياسة «اخبط راسك فى الحيط» هى منهج المسؤولين عندنا، ومياه الصرف عندما تعلوا إلى المنسوب الطبيعى الذى تعودنا عليه، تختلط بالكابلات غير المغطاة مما يتسبب فى إحداث ماس كهربائى وحرائق نظراً لوجود أكوام قمامة. محمد السيد، طفل لم يتجاوز 4 أعوام، لكنه لا يستطيع التنفس مثل باقى أطفال النوبارية، الذين أصيبوا بأمراض صدرية نتيجة وجود مياه الصرف والقمامة وكل مظاهر العشوائية التى تحيط بهم والكفيلة بنقل عدد لا بأس به من الأمراض، أصيب محمد بمرض حساسية الصدر، ولم تستطع أسرته أن تغطى تكاليف علاجه نظرا لضيق الحالة. وتصرخ والدته قائلة: «إحنا استحملنا الهم حرام يتكتب على ولادنا كمان ارحمونا». ووسط كل هذه الأوبئة والأمراض، تخلو مساكن النوبارية من المستشفيات ووسائل الإسعاف، ليس هذا فقط بل إنها تخلو من الأفران وكل المرافق التى يستحقها أى مواطن يعيش بشكل آدمى. ويؤكد الأهالى حدوث حالات وفاة لعدم إسعافها سواء بعد الغرق فى الترعة أو عند حدوث الأزمات الصحية. من جانبها وصفت دكتورة وفاء منيسى، رئيس جمعية رواد البيئة وحقوق الإنسان، أستاذ الأنثروبيولوجى بكلية التربية، ما يحدث بأنه كارثة إنسانية وبيئية بكل المقاييس وتستحق وقفة من المسؤولين، مشيرة إلى أحقية أى فرد فى المجتمع فى أن يحيا حياة كريمة، بعيدة عن الخوف والمرض والقلق من المستقبل. وأضافت: إن محاصرة مياه الصرف والحشرات والقمامة لأى بيئة عامل أساسى فى تفشى المرض بين أهلها. وأكدت ضرورة وجود جهد بيئى وإنسانى وحكومى من أجل الارتقاء بالمستوى المعيشى لكل من يقطن تلك الأماكن. من جانبه نفى مصدر مسؤول بحى العامرية، طلب عدم نشر اسمه، وجود أى مشكلة تعانى منها المنطقة، مؤكداً أن هناك صيانة أسبوعية لشبكات الصرف بالنوبارية. وبرر شكوى الأهالى بأنهم «عاوزين يشكتوا وخلاص». رفض النائب عبدالمنعم راغب ضيف الله، عضو مجلس الشعب عن دائرة العامرية، التعليق على الأزمات التى يعانى منها أهالى المنطقة. واكتفى بالقول: «أنا عارف إن الأهالى مش بيشتكوا من مشاكل من غير ما أسمع أى حاجة». فيما أكد عدد كبير من الأهالى، أن «راغب» يرفض التدخل لحل أى مشاكل تواجههم وأنهم لا يرونه مطلقاً، إلا وقت الانتخابات، وأنه يتهرب من أى مقابلات معهم.