هل هناك فعلا حافز للموت أسرع أو للعيش أطول؟ هل لرغباتنا دور في الحياة أو الموت، من المؤكد أن الحياة والموت بيد الله، لكن هناك من يتعلقون بالحياة مهما كانت مزعجة، وهناك من يزهدونها مهما كانت مريحة، وأمر الله في الحالتين نافذ ... غريب أمر الانسان! تري من أي نوع كان سيادته!! في حجرة واسعة، شبه خالية في معظمها الا من بعض الأجهزة الطبية والمقاعد ... الوثيرة ... ربما ... لكن كسوتها بذلك الجلد الأبيض أعطاها مظهرا باردا حتي أنها تكاد تختفي عن عين الناظر لتماثل لونها مع لون الجدران. كانت صافرة جهاز متابعة نبضات القلب هي الصوت الوحيد القوي في تلك الحجرة ... صوت منتظم، ربما ممل ... ولكنه يعبر عن استمرار الحياة لذلك الرجل الراقد ممتقع الوجه، متصلب الملامح والذي حفرت السنوات أثارها علي وجهه غير عابئة بموقعه كرئيس دولة من دول الشرق يحاول أن يبدو شابا طوال الوقت ... كان الصوت يخرج من الجهاز ويحار اين يذهب؟! ... فلا يجد سبيلا بعد كل انطلاقة سوي الاصطدام بالحائط الأبيض المقابل ... فينزلق ثم يسقط ثم يتلاشي ليعقبه صوت آخر يحاول التشبث بالحائط عسي أن يبقي أو يستمر لفترة أطول لكن لا فائدة كان مصيره الفناء هو أيضا. في الحجرة نفسها كان هنالك صوت آخر ... ضعيف نعم ... لكنه موجود ... انها انفاس واهنة كانت آخر ما يربط صاحبها بالحياة، وكأنه يأبي أن يفارقها ويصر أن يظل هذا النفس هو رابطه الأخير بها. كانت المقارنة بين الصوتين ظالمة للغاية، وخاصة عندما كان صوت الجهاز يتسارع ويتوتر معلنا أن شيئا ما يحدث علي غير ما يرام فيفرض الصوت سيطرته تماما علي الحجرة ويصبح سيد الموقف بلا منازع. في ذلك الصباح انطلقت الصافرة معبرة عن الخلل والعطب الذي أصاب قلب المريض الرابض فوق السرير، وبدأ صوت حشرجة الانفاس يزداد ويتصاعد حتي وصل الي شكل من اشكال استدعاء الحياة ... ولكن بلا جدوي ............... فتوقف تماما وانطلقت معه صافرة مستمرة مزعجة واختفت انحناءات علامات الحياة لذلك الخط الاخضر علي الشاشة السوداء وتحول خطا مستقيما يعبر عن اللاحياة ... مات الرجل! هناك لحظات بين الحياة والموت تتحرر فيها الروح وتصبح قادرة علي فعل أشياء لم تكن أبدا تتخيل أنها قادرة عليها. "ماهذا البرد سأموت من البرد" شعر سيادته بأنه علي وشك التجمد فقال في نفسه "لا بد أنها تلك الممرضة الغبية، مازالت مصرة علي قتلي بردا لن أتركها هذة المرة" "وماهذا الظلام لماذا اطفأوا الأنوار؟" كان الظلام يلفه بشده حاول تحريك قدميه لكنها كانت لا تصطدم بشئ!؟ اشتد البرد وزادت الظلمة ... الا أنه بعد دقائق قليلة من اعتياد عينيه علي الظلام اكتشف أنه بداخل شئ مغلق! وتملكه الهلع ... دقائق سمع بعدها حوارا لم يتبين تفاصيله جيدا، وشئ ينفتح تلاه صراخ شديد انخلع له قلبه ... ثم أعقبه صوت يقول "اغلق الدرج والنور يا محمد وتعال ورائي لنُشَرِحَ رقم 25" وهنا فهم السيد الرئيس أين هو ... انه في أحد الأدراج في ثلاجة المشرحة؟ ...... مع الأموات!!! مرت دقائق هَلِعَ فيها حتي انخلع قلبه مرات وغاص مرات أخري وهكذا آلاف المرات، فبدأ في الصراخ والدق علي جوانب الدرج، ولكن بلا جدوي وتحولت محاولاته للخروج إلي نحيب شديد لم يسمعه إلا هو وساكني الأدراج، اكتشف بعدها أنه لافائدة من ذلك كله ... فاستسلم للأمر الواقع ... وبدأ يفكر ماذا سيفعل بمن أتي به الي هنا؟ ... عندما يخرج سيعاقب الجميع أشد العقاب ... المسكين كان يظن أنه سيخرج حيا!! وتسرب الي سمعه هذا الحوار:"اتعرف من جارك في الدرج يا حسن؟" قالها صوت أجش فرد عليه صوت آخر أقل حدة "أعرف يا سعيد هذا سيادته، لكن الظاهر انه لا يصدق انه قد مات!" رد سعيد "لاتقلق سيتعود واكيد سيصدق" وتململ الرئيس في نومته وسأل نفسه ماهذا الذي يسمع كيف لهم جميعا أن يكونوا أحياء ويقبعون في أدراج هذة الثلاجة! أخذ الرجل يحاول أن يستوعب الأمر رافضا من داخله ذلك الشك الذي بدأ في التسرب إلي نفسه أن يكون قد مات! فقال "لا لا مستحيل أن أموت كيف؟ أنا أموت!؟" فرد سعيد "ككل الناس سيادتك" فقال الرئيس "اخرس ياولد من أنت؟ من الذي مات وأي ناس؟ أنا لست كأحد، أنا لست بميت أنا لن أموت لن أموت، من أنت؟! ... أنت منهم أنت من اعدائي، لاتعرفون قيمة مافعلته للبلد أنا ضحيت بعمري، أغبياء لاتفهمون ماذا سيحدث لكم من بعدي" رد حسن "سيادتك تسأل من هو؟ ... انه واحد من ضحاياك ... لكن لم يعد هناك جدوي الجميع هنا سواء" سمع حسن وسعيد صوتا أقرب إلي الزمجرة كان هذا سيادته غضبانا بل يكاد يتميز من الغيظ مما سمع منهما! وفي صباح اليوم التالي أفاق سيادته علي ضوء يخترق ظلمة درجه ومستقره طوال ساعات الليلة الماضية، ورأي وجها يجر المقبض إلي الخارج وبدأ يستعد للسب والشتم والانتقام ممن أدخله إلي هذا المكان وجعله يقضي هذة الليلة المرعبة الكئيبة، فصار يرغي ويزبد ويسب ويلعن إلا أنه لاحظ شيئا غريبا !!!... ليس لكلامه أي ردة فعل علي وجه الرجل، "ماهذا هل هو أصم؟" واردف لنفسه "آه نعم بالتأكيد هو أصم" وحاول سيادته أن يتحرك ليجلس فيستخدم لغة الاشارة مع الرجل عسي أن يفهمه، الا أنه وجد صعوبة في ذلك فقد كان ملفوفا بقماش ما ... جعله حبيسا داخل هذة الطبقات ... تجاهل الأمر، وانتظر أول داخل عسي ألا يكون أصما هو الآخر، لا بل من المؤكد أنه لن يكون أصما هكذا مضي محدثا نفسه ... مضت دقائق انتقي فيها اقذع الألفاظ التي سيكيلها لأول داخل عليه، كان ذلك المحظوظ هو طبيب المشرحة، فشحذ سيادته لسانه وكان علي وشك البدء ... الا أن الكلمات التي خرجت من فم الطبيب غيرت كل شئ وللأبد، قال الطبيب "يا محمد أخرج سيادته، الرياسه ستتسلمه حالا" لوكان من الممكن لإنسان أن يموت أكثر من مرة لقلت لكم أنه قد مات من الصدمة ... صدمة اكتشاف الميت أنه قد مات ... صدمة من ظن أنه خالد لامحالة ... من ظن أن الله يستثني أصحاب السطوة والنفوذ والجاه والمال من سنة الحياة، فأعد كل شئ لخلود الحياة ولم يعد شيئا لخطفة الموت! قال الخبير بعباده (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) عسي ألا نكون منهم. سيادة الرئيس ... البقاء لله ... حضرتك مت! يقول الله عز وجل "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ" فلماذا التعجب وعدم التصديق إنا لله وإنا إليه راجعون!