معظم الأخبار المنسوبة لحكومتنا الذكية، والتصريحات المتطايرة من أفواه مطهريها، تعبر عن ارتياح عظيم لما تحقق للمصريين من ارتفاع فى معدل التنمية، وعوائد الاستثمار، وزيادة الدخول، وتجاوز للأزمة الاقتصادية العالمية، كل وزير يخرج متحدثاً عن إنجازاته، وكأنه حفيد من أحفاد طلعت حرب، شمر وعمر وأصلح وطور وبنى ونجح فيما لم يستطعه الأوائل، كل شعار من شعارات مؤتمرات الحزب الوطنى الستة، يؤكد أن هناك فكراً جديداً ودماً جديداً ورؤية حكيمة لمصر جديدة، ينعم فيها كل الناس بالمواطنة ومنتهى العدالة الاجتماعية، والخلاصة كل ما يقال يؤكد أن معاناة الناس مجرد تهيؤات وأوهام ومحض افتراء على نعم الحكومة التى لا تعد ولا تحصى. ورغم أن التنمية لا يستشعرها الناس بالكلام، والعمل الجاد لا يحتاج لغناء الأفاقين، ومع ذلك دعونا نسلم بالوهم فى زمن الحقائق الضائعة، دعونا نتعامى عن كل صور الفساد التى لم يغفلها تقرير حقوقى دولى أو محلى، ونتخيل، أننا ماضون مع عجلة التنمية للأمام، ونتخيل أننا نعيش السعد والوعد والرغد والنعيم دون أن ندرى، لكن، كيف يمكننا أن نسلم ونتعامى عن تدمير خط الدفاع الأول فى مصر «الزراعة»؟ هل يمكن الحديث عن أى نوع من أنواع الإصلاح الاقتصادى فى غياب سياسات زراعية محترمة تحفظ الأرض من التآكل وتدعم الفلاح وتوفر له ما يحتاج من خدمات أساسية؟ هل يمكن الحديث عن أمن قومى فى ظل تحكم الغير فى حوالى 80٪ مما نأكله وما يقدم إلينا من معونات مشروطة بما يجب علينا وما لا يجب؟ الإجابات كلها بالنفى طبعاً، فالأمم الجائعة لا تنهض، الأمم التى لا تملك قوت يومها، لا تملك قرارها، والاستقرار الحقيقى يبدأ من ترسيخ الأمن الغذائى، والذى بدونه يصبح الحديث عن التطور والتنمية والازدهار، نوعاً من الاستخفاف بالعقول وانتهاك مشاعر الناس، فأين نحن من هذا الاستقرار؟ وهل نحن فى سبيلنا لتحقيق الاكتفاء الذاتى؟ أم أننا بأمر السياسات الزراعية الفاشلة والحرب الخفية على مصائرنا، نسابق الزمن نحو السقوط فى براثن الجوع؟ أين تنمية المحاصيل الزراعية من الحكومة وأين الحكومة من تنمية المحاصيل؟ فى أكتوبر الماضى كان العالم المتحضر منشغلاً بكيفية توفير الطعام للجوعى، فى الدول النامية عام 2050، وأصدرت منظمة الفاو توصياتها بحتمية زيادة الاستثمارات الزراعية لهذه الدول، خمسة أضعاف ما هو حاصل الآن، فى نفس الوقت الذى كان فيه الحزب الوطنى- وسط تصفيق الحضور- يتذكر فجأة كائناً بشرياً مصرياً اسمه الفلاح ويقرر أنه سيضعه فى مقدمة أولوياته وسيتصدى لمشكلاته ويعالجها، وما جنيناه من الحزب وسياساته طيلة الفترة المنصرمة مجموعة من الكوارث فى مجال التنمية الزراعية يمكن حصر بعضها فيما يأتى: أولاً: قوانين معطلة تحت حراسة مجموعة من النائمين فى العسل، أدت لإهدار وتقليص وتبوير وبناء عشوائى وزحف صناعى على حوالى 760 ألف فدان حسبما أشار البنك الدولى من أجود وأصلح وأخصب الأراضى الزراعية من أصل ستة ملايين فدان كان يعول عليها المصريون فى ضمان أمنهم الغذائى، والمساحة مرشحة للتزايد لتبلغ مع نهاية 2010 مليوناً ومائتى ألف فدان. ثانياً: التطبيع الزراعى مع جهات معادية، تسعى لتدمير حرثنا ونسلنا، مما فتح الباب على مصراعيه أمام مبيدات وكيماويات فاسدة أثرت على محاصيلنا الزراعية، وحالت دون تصديرها وتركت آثارها على مياهنا الجوفية عشرات السنين. ثالثاً: انهيار التعاون الزراعى تحت وطأة البيروقراطية القاتلة، وتقلص الاستثمار الزراعى الحكومى إلى 3٪ رغم أنها تسهم فى الناتج القومى بنسبة 17٪ وتحول بنك التنمية الزراعى من داعم رئيسى لفقراء الفلاحين، إلى جهة استثمارية تحصل على قروض بفائدة لا تتجاوز 1٪ ثم تعطيها للفلاح بفائدة تصل فى بعض الأحيان إلى 12٪. رابعاً: اتخاذ وزير الزراعة الحالى المهندس أمين أباظة قرارات أقل ما توصف به، أنها تدميرية لثروتنا الزراعية وأمننا الغذائى، وإلا بماذا نفسر تحرير أسعار الأسمدة والمبيدات وتركها لظروف السوق وإصدار ثلاثة قرارات دفعة واحدة برفع أسعار 65 لقاحاً بيطرياً لعلاج أمراض الحمى القلاعية والجديرى المائى وحمى الوادى المتصدع؟ بماذا نفسر دعم المصدرين بأكثر من ستة مليارات جنيه وترك الفلاح فريسة سهلة للقروض والفوائد وتقليص دعمه من مليار ونصف إلى 370 مليون جنيه؟ بماذا نفسر تحجيم مراكز البحوث الزراعية بالبيع أو بالإيجار وإلغاء دور الإرشاد الزراعى المنوط به توصيل الفلاح بالتكنولوجيا وتقديم ما يحتاجه من نصح وتوجيه؟ لمصلحة من يلغى إلزام الفلاح بتوريد محصول القمح إلى الجمعيات التعاونية وجعل زراعة القطن اختيارية والتخلى عن زراعة المحاصيل الاستراتيجية بزراعة الخضر والفاكهة الأكثر ربحاً؟ خامساً: إحجام الطلاب عن الدخول إلى كليات الزراعة، للإحساس الدونى بعدم جدواها، حتى إنها مفتوحة للحاصلين على 50٪ ومع ذلك فالإقبال عليها ضعيف للغاية، إلى درجة أنك تجد فى كلية الزراعة جامعة القاهرة أستاذاً لكل أربعة طلاب، كما خلت أقسام النبات من الطلاب تماماً، ولم يبق فى قسم الإرشاد الزراعى بجامعة المنصورة إلا أربعة دارسين، أليست هذه بداية نهاية الزراعة فى مصر؟ أليست هذه مؤامرة على أقوات الناس واستقلالهم؟ ولصالح من؟ يا عباد الله هذه بعض كوارث من بلاوٍ لا تقع تحت حصر، وانتهاكات غير مسبوقة لميراثنا الزراعى، وكل هذه الأخطاء الكبيرة لن تعالجها الوعود والأمنيات، ولابد من تغيير جذرى للسياسات الزراعية المتبعة. لقد ولى زمن الخطب بكل ما جناه علينا من شر، ولابد لزمن الفعل أن يحل محله، قبل أن تبور الأرض ويموت الفلاح ونصبح جميعاً فى خبر كان.