«لقد درسنا فى التاريخ العام الماضى أنّ..»، سمر تمسك الكتاب وتتلو بصوت عالٍ متظاهرة بالمذاكرة. والحقيقة أنها لا تعبأ بالمرة بما درسته العام السابق فى التاريخ. لكنها تفعل ذلك بمجرد دخول ماما الغرفة، بعد أن اقتربت الامتحانات وكثرت المشاجرات بين ماما وسمر. سمر لا تعلم أن ماما كانت تفعل نفس الشىء حينما كانت فى عمرها، ولذلك فإنها - بمجرد أن توليها ظهرها - تبتسم، وتدعو لها بالنجاح. سمر مراهقة، وإن كانت لا تعترف بأنها مراهقة! ماما تعرف، بابا يعرف، حتى قطتها سكّر تعرف أنها ليست على ما يرام. لذلك أصبحت فى الآونة الأخيرة تنظر إليها فى قلق، وتخاف من انفعالاتها فتهرب وهى تضع ذيلها فى أسنانها. فقط سمر وصديقاتها هن فقط من يعتقدن أنهن أحكم بنات فى العالم. كل ما هنالك أن الأمهات يهتممن بأشياء ثانوية لا قيمة لها البتة، مثل المذاكرة وترتيب الغرفة وعقص الشعر، وعدم السهر أمام الكمبيوتر حتى الفجر! كانت سمر تكبر، تشعر بشىء غريب يعتمل فى أعماقها. بدمائها وقد اشتعلت كاللهيب، فيصيبها القلق والارتياع. تتنفس بعمق محاولة أن تهدأ، ثم تشعر بالحزن فجأة ويخنقها البكاء. وتبدأ - فيما بينها وبين نفسها - تؤلف الحكايات. ترى نفسها وحيدة تسير على شاطئ بحر، بحر لا مثيل لزرقته وصفائه. تعيش على الشاطئ اللازوردى بعد أن هجرت العالم الذى لم يفهمها. ينفخ الهواء فستانها ويعبث بشعرها، ويُلثم الموج - وهو ينداح على الرمل - قدميها الصغيرتين الحافيتين، فتشعر بأنها أميرة من أميرات الحكايات. هكذا ستعيش ما تبقى من حياتها على شاطئ البحر، بعيدا عن نصائح الأمهات وتأنيب المُعلّمات وغيرة البنات. وحين يحين أجلها، وتلفظ أنفاسها الأخيرة، لا يحضر جنازتها سوى طيور النورس البيضاء، التى تتجمع فى شبه دوامة صغيرة، تحفر قبرها فى الرمال الذهبية بمنقارها الطويل، بعدها يردد الموج قصتها للأجيال القادمة موّالا وحكايات! ■ ■ ■ تأثرت سمر بالحكاية التى ألفتها فراحت الدموع تنهمر من عينيها حزنا على مصيرها، وبدأت فى الانتحاب. نظرت لها قطتها سكّر فى تشكك، وهى تتأهب للفرار. راحت سمر تعاود الحلم وتتخيل مشاعر والديها حين يعرفان نبأ موتها: أمها بالخصوص. فتندم لأنها كانت تلومها حين تترك الغرفة مبعثرة، أو حين تهرب من المذاكرة، أو حين تتحدث فى الهاتف مع صديقاتها بالساعات. وتشاهد بعين الخيال أمها، وهى تنحنى على جسدها البارد، تذرف دموع الندم. سمر ماتت! سمر المُرهفة الملائكية الجميلة (إحم! واضح أن سمر تحب نفسها بجنون!). سمر التى لم تحتمل قسوة هذا العالم.. فماتت!! ■ ■ ■ وفجأة تملّ سمر هذا التلاعب العاطفى بمشاعرها فتضحك من عباطتها، فتقهقه بأعلى صوتها، فتهرب القطة بسرعة فى انزعاج. وقبل أن تبدأ فى نسج حكاية أخرى تسمع صوت أقدام أمها تتسحب، فتمسك الكتاب بسرعة وتردد بصوت عالٍ: «لقد درسنا فى التاريخ العام الماضى أنّ..». ولا تتمالك ماما نفسها فتضحك، وتضحك القطة، وتضحك سمر.... [email protected]