عندما بدأ الرئيس السادات تجربة المنابر ثم الأحزاب، وأقدم على تجربة الصحف الحزبية، كانت هناك ثلاث صحف حزبية تصدر فى مصر: (الوفد) و(الأهالى) و(مايو) جريدة الحزب الوطنى، التى كانت -ومازالت- يقرؤها مصححو اللغة العربية فقط، وكانت جريدة «الأهالى» آنذاك يصدر لها عدد، ويصادر لها عددان، وعادة ما يكون قرار المصادرة مشفوعا بقرار إغلاق، وتعود للصدور بحكم المحكمة، ورغم ذلك لم يحتمل الرئيس السادات هذا الهامش الضئيل من الحرية المتفق عليها كسيناريو حكومى مصروف للقوى السياسية (على سركى) من قبل النظام حتى نبدو أمام العالم المتحضر أننا دولة ديمقراطية لديها أحزاب سياسية تتمتع بالحرية، وذلك فى مقابل الحرية الاقتصادية التى سماها يومها (الانفتاح).. إلى أن وصل ضيقه بهذا الهامش الضئيل من الحرية ذروته فى قرارات 5 سبتمبر 1981 السوداء، عندما فاجأ السادات الجميع باعتقال قائمة من كبار السياسيين والكتاب ورجال الدين المسلمين والمسيحيين ورؤساء الأحزاب حتى بلغ عدد المعتقلين 1536 شخصية من جميع الاتجاهات السياسية نساء ورجالاً.. وتوج هذا الإجراء التعسفى بإقالة قداسة البابا شنودة من منصبه، واعتقال رئيس حزب الوفد فؤاد سراج الدين، ولم يدم اعتقال هذه القائمة سوى 33 يوما، حيث اغتيل السادات صبيحة يوم 6 أكتوبر 1981 بين جنوده وضباطه على الهواء مباشرة أثناء احتفالات نصر أكتوبر، وبعدها استقبل الرئيس حسنى مبارك كل هؤلاء المعتقلين فى القصر الجمهورى مدشنا عهده بمصالحة شاملة مع كل القوى السياسية التى اختلف معها السادات، وأعلن يومها الرئيس مبارك: «أنه لن يقصف قلم ولن تغلق صحيفة فى عهده»، وبالفعل ارتفع بالتدريج سقف حرية التعبير والنشر فى الصحف، وزادت إصدارات الصحف والمجلات إلى أن غطت أرصفة الشوارع، وبالطبع ليس خافيا على أحد أن الحوار الدائر مازال هو حوار (الطرشان)، فالمعارضة تكتب وتنشر ما تشاء، والحكومة تفعل ما تريد.. وكله بالقانون. ومازال منظرو الحكومة ومفكروها يستندون إلى نظرية (التنفيس وتفريغ طاقات الغضب).. على أساس أن الناس فى الشارع المصرى يعتقدون أن هذا الكم الهائل من السخط اليومى المنشور فى الصحف اليومية، والمذاع فى التليفزيونات عبر برامج التوك شو سيؤدى بالتأكيد إلى مساءلة المسؤولين عن هذه الكوارث اليومية أو محاكمتهم، وأن ذلك سيحدث تفريغاً لطاقات الغضب والسخط اليومى لدى المواطنين، وبالتالى أضاف النظام هذه الظاهرة إلى ميزان حسناته، خاصة أنه أنشأ أجهزة كاملة للدفاع عن سياسته بانتظام ودون وجه حق، إذ استغل الصحف القومية التى هى، وفقا للدستور، ملك خالص للشعب، فتحولت إلى ملكية خاصة لقوات (الأمن) الصحفى الجديدة التى تفنن النظام فى اختيارها من أشد العناصر ولاءً لسياسته، وهذا ما أفقد هذه الصحف مصداقيتها تماماً لدى كل فئات الشعب، باستثناء شعب الله المختار وأعضاء الحزب الوطنى فقط. ولكن عمالقة التنظير فى الحزب الوطنى نسوا أو تناسوا أن نقطة الماء مع الزمن تفلق الحجر، وأن كل تراكم كمى يحدث على المدى الطويل تغير كيفى، ومن أهم نتائج هذه التراكمات تلك الوقفات الاحتجاجية على رصيف مجلس الشعب، التى ظلت إحدى أدوات التعبير المكتسبة إلى أن أطاحت بها قوات الأمن الأسبوع الماضى، ورغم ذلك فإن هذا الكم الهائل من التحقيقات الصحفية والتليفزيونية التى تتحدث عن الفساد، والسرقات ونهب المال العام، لن يمر على ذاكرة الأمة مرور الكرام حتى وإن اعتبرته الحكومة أداة للتنفيس أو لتفريغ شحنات الغضب، ويبدو أن حرية الصحافة ستشهد منعطفات خطيرة قبل انتخابات الرئاسة المقبلة، وليس أدل على ذلك سوى استدعاء الزميلين مجدى الجلاد وخالد صلاح، رئيسى تحرير جريدتى «المصرى اليوم» و«اليوم السابع»، للتحقيق معهما لنشر مذكرة النيابة بشأن قضية رشوة اثنين من أعضاء مجلس الدولة، فيبدو أن القضاء أيضا بدأ يتحرك ضد حرية الصحافة. فضرب الواقفين على رصيف مجلس الشعب للاحتجاج بهذه الصورة الوحشية، بعد أن خلعوا ملابسهم أمام تليفزيونات العالم كله، واستدعاء رئيسى تحرير جريدتين بوزن «المصرى اليوم» و«اليوم السابع» لهما مؤشر بانقضاء شهور العدة بين النظام وحرية الصحافة، وبعدها سيطلب النظام الصحافة المستقلة فى بيت الطاعة، أو قد يعتبرها ناشزاً، أو قد يستدعى الأمر وجود محلل لشرعية الزواج مرة أخرى. ويبقى السؤال: هل يأمن النظام انفجار الغضب العشوائى العام، لدرجة أنه يستهين بذكاء 80 مليون مواطن، حتى مع تمديده لقانون الطوارئ، وحتى مع تأميمه للمجلس القومى لحقوق الإنسان الذى أقيل منه الدكتور كمال أبوالمجد، وتم تعيين معظم أعضائه من رجال النظام، ورغم ذلك صرخت د.منى ذوالفقار منذ يومين فى الاجتماع الشهرى للمجلس عندما رفض أغلبية الأعضاء إصدار بيان بإدانة تمديد قانون الطوارئ قائلة: «حرام عليكم قلبتم المجلس لحزب وطنى».. فهل سيعود النظام إلى تأميم الصحافة وتعيين (قوات أمن) صحفى لرئاسة الصحف الحزبية والمستقلة رغم أن النشر بها لم يبلغ ذروته بعد؟، فما خفى كان أعظم وأنتم تعلمون!!