شهدت مصر تطورات خطيرة خلال الأسبوع الماضى. أولاً معدل نمو اقتصادى عام سلبى، ثانياً ما وصفه الكثيرون ب«الحرب الأهلية»، وأخيراً أحداث تبشر بحرب دولية. لاشك أن هذه تطورات تدعو للقلق، فصحيح أن النمو الاقتصادى فى ظل حكومة نظيف لم تصل ثمراته عادة للعامة، لكنه كان موجوداً على الأقل، وتسربت ثماره بالفعل لتلك الطبقات التى أكلت وشربت وعاشت حياة مرفهة فى اتصال مع العالم الخارجى، وهى التى لعبت الدور الأهم فى تفجير الثورة، لأنها كانت تتطلع لآمال سياسية مماثلة لمثيلتها فى العالم الحر، أما ما حدث فى الشهور الماضية فقد جسد عملية إقصاء لتلك النجاحات ورموزها، فى حين تم تكريس أبشع ما تضمنته حقبة مبارك. لذلك يطل علينا شبح الحرب الأهلية الذى لوّح به، بل ربما شجعه، نظام مبارك. فنظرة سريعة للتقرير الملم الذى صدر فى هذه الجريدة يوم الأربعاء الماضى تشير إلى خطورة ما حدث. فالأحداث الطائفية كانت تفصل بينها عقود من الزمن فى البداية، هكذا جاء حادث «الخانكة» عام 1972، ثم أحداث الزاوية الحمراء عام 1982 ثم أحداث «الكشح» عام 2000، ثم توالت فى أعوام 2005 و2007، و2009، فصارت ظاهرة سنوية. أما فى عامنا الحالى، وفى ظل الحالة الثورية السائدة منذ شهور معدودة، فاندلعت على الأقل ثلاثة أحداث عنف طائفى، وكأن «الثورة» تريد فعلا تكريس فظائع نظام مبارك. كذلك بالنسبة لخطر الحرب الدولية، حيث يصر البعض على جرنا نحوها، مع أننا قد سرنا فى هذا الطريق منذ حين، حتى إذا كنا لا نعرف ذلك ولا نعى تداعيات هذا المنهج الذى تم فرضه علينا منذ عقود رغم اتفاقية السلام التى دفع ثمنها شهداء الحرب والسلام، بمن فيهم الرئيس الراحل أنور السادات، فنظام مبارك هو الذى عمل على تدمير علاقاتنا الفكرية والثقافية بالعالم المعاصر بعد أن أنقذ السادات بعض جوانبها، ولو بطريقة منقوصة، لأن مبارك كان يرجو المضى قدما فى الاستفراد بشعب مصر الذى صار أعزل، بعد أن عزله نظام يوليو عامة ونظام مبارك، الذى عمل على تخوين كل من دافع عن حقوق الإنسان المصرى، بتهمة أن المدافع يتبنى مخططات أجنبية تآمرية. ولم تكن هذه الخطة، التى تبدو عبقرية فى شرها، ناجحة عملياً.. فبالفعل كان نظام مبارك «بيزن على خراب عشه»، نظراً لتحالفاته العملية مع الغرب، فعقلية نظام مبارك ذات الوجهين، ونمط الأخلاقيات الذى نتج عنها، لا يمكن أن يستمرا فى النجاح كثيرا نظرا لجوهرهما الكاذب، والحكمة الأدبية هنا هى أن منعدم القيمة يلقى مصيراً مأساوياً فى النهاية حتى إذا كان فى طرقه الإعلامية بعض عناصر الكوميديا. فنظام مبارك كان يتعاون عمليا مع الغرب وكأنه عميل تابع له، لأن مصالحه النفعية كانت تدعو لذلك، وفى نفس الوقت كان يحرص على تصوير نفسه إعلاميا على أنه نظام «مقاوم»، كاره للغرب، وكأن تلك الكراهية قيمة فى حد ذاتها، وكان يحدث ذلك فى إطار «شعبوى»، والمرجو منه إعادة توجيه شحنات الغضب الناتجة عن فشل النظام الذريع فى كثير من المجالات، أى إعادة توجيه شحنات الغضب تلك نحو الآخر. نفس الشىء كان يحدث بالنسبة لإسرائيل.. فقد تَعامل نظام مبارك «من تحت لتحت» مع الإسرائيليين اقتصاديا وحتى أمنيا، ثم كان فى نفس الوقت يحرّض الشعب المصرى ضد تلك الدولة من خلال إعلامه الرسمى، الذى لم يقل كلمة موضوعية واحدة تقريباً عن إسرائيل، بعيدا عن لغة التعبئة والصراع الأبدى المفترى.. فماذا نعرف مثلا عن الثقافة والعلم والفن والاقتصاد والتكنولوجيا المتطورة هناك، والتى يعجب بها العالم المعاصر؟ لماذا لم يعرّفنا نظام مبارك بالدولة التى كان يتعاون معها؟ وأليس من الغريب أن يتعامل معها هو فقط ويمنع ويهدد المواطنين المستقلين الذين أرادوا الذهاب إلى إسرائيل، بل كان يتحرش بهم ويعتقلهم فى الكثير من الأحيان؟ لقد صارت «الموضة» أن تكون من ضمن مقومات النهج «الثورى» معاداة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، لأن من المفترض أن مبارك كان صديقاً لهما، رغم أن إعلامه هو الذى كرس عقلية العنف اللفظى ضدهما.. مبارك لم يكن صديقا لهؤلاء، إنما كان عميلاً مزدوجاً و«بوشّين»، لذلك لا يجب الدخول فى صراعات مبنية على صورة عامة خاطئة، صادرة عن إطار إعلامى وتصورى وفكرى بناه النظام السابق دفاعا عن مؤخرته الفاسدة المكشوفة. إننا على وشك مرحلة خطرة فى تاريخ البلاد، فالاقتصاد فى انهيار، وحال الجبهة الداخلية يعكس انشقاقات نار الفتنة.. وآخر ما نحتاجه الآن هو حرب دولية، لتكتمل الكارثة. إن الخيانة الحقيقية حاليا تتمثل فى جَرّ البلاد نحو الحرب.. ولاسيما عن طريق تظاهرات صبيانية ضد «عدو صهيونى» ليس له وجود فى حياتنا أصلا، إلا ربما من خلال ميثولوجيا الخزعبلات التى طالما تعودنا عليها، لأن النظام شبه الشمولى، العسكرى والأمنى، الذى حكم مصر، عوّدنا عليها فى سبيل إلهائنا عن طبيعته شبه الفاشية التى يجب أن نتخلص منها نهائيا، بدلاً من تكريس منهجها بإرادتنا الحرة. [email protected]