هذه الحكاية قرأتها فى كتاب صدر مؤخراً حول الانتخابات الأمريكية الأخيرة، بعنوان «تغيير اللعبة»، وربما تفيد فى فهم مايحدث فى مصر الآن. كانت لحظة حاسمة فى حملة السيناتور باراك أوباما للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطى لانتخابات الرئاسة.. تجمع أنصار كل المرشحين فى مؤتمر انتخابى بولاية أيوا.. لو فاز بها أوباما فإنها ستدفع به للأمام للفوز بترشيح الحزب.. لم تكن منافسته الرئيسية هيلارى كلينتون تدرك ذلك، فهى الأكثر تعبيرا عن «المؤسسة» داخل الحزب، وهى أيضاً متقدمة جداً فى استطلاعات الرأى العام، وعندما نظر رئيس حملتها مارك بن إلى مؤيدى أوباما من الشباب الصغير الذين حصلوا على حق التصويت لأول مرة، استخف بهم وأطلق عبارته الشهيرة «إنهم يشبهون الفيس بوك» وهو الموقع الإلكترونى المعروف.. كانت الحكمة التقليدية أن هؤلاء الشباب يتحمسون ويخرجون للمؤتمرات لكنهم لايذهبون للتصويت، ولا يتبرعون بالأموال للمرشحين، لكن الآلة السياسية الجبارة لهيلارى لم تستوعب حجم وطبيعة ماحدث من تغيير فى المجتمع الأمريكى، خاصة بين الشباب، فقد خرجوا بالآلاف للتصويت، وقام دافيد بلوف المسؤول بحملة أوباما الانتخابية بتجنيد اثنين من الشباب لتصميم موقع إلكترونى لجمع التبرعات، فإذا به يحصد أكبر تبرعات لحملة انتخابية فى التاريخ الأمريكى أغلبها مبالغ قليلة من فقراء أو شباب لا يملكون الكثير. وقفت كثيراً أمام هذه الحكاية وأنا أحاول تفسير مايحدث فى مصر الآن، فهناك وجه وملامح جديدة لعملية الحراك السياسى والاجتماعى لانعطيها حقها من الاهتمام، بل ويسخر البعض بأن أنصارها من الشباب يمثلون «عالما افتراضيا» لمجرد أنهم التقوا عبر الوسائل الإلكترونية مثل الفيس بوك.. هذا الخطأ ليس مقصوراً على الحزب الحاكم، لكنه يمتد أيضا ليشمل «المؤسسة التقليدية» لأحزاب المعارضة، فقد عجزوا جميعا عن النزول إلى الشارع أو التأثير فيه فتركوا فراغاً كبيراً لم يدركوا أن هناك «حركة» جديدة يمكنها أن تملأه بشباب كلهم حماس ونقاء، لم تلوثهم «الصفقات الانتخابية»، ولا يعوقهم قانون الطوارئ، ربما لا يحتشدون فى مؤتمر انتخابى، لكنهم يجتمعون يوميا أمام شاشات الكمبيوتر للمشاركة فى صياغة مستقبل وطنهم، ولن يمر وقت طويل قبل أن يدرك المشككون أن الفارق بين «العالم الافتراضى» والعالم الحقيقى ليس كبيرا كما يتصورون، فحركة الاقتصاد العالمى تدور الآن فى أغلبها فى هذا العالم الافتراضى، وحملة أوباما جمعت الأموال وحشدت الأصوات فى هذا العالم الافتراضى، حتى وهو رئيس يحكم فى البيت الأبيض، فإنه يعتمد على البيانات الإلكترونية للمواطنين لحشد تأييدهم لسياساته كما حدث مؤخرا فى قانون الرعاية الصحية التاريخى. وربما يعتقد البعض أننى أتحدث بحكم تجربتى الأمريكية دون إدراك للفارق بين مصر والولايات المتحدة، لكن الواقع ينفى ذلك، فحركة 6 أبريل بدأت على الفيس بوك، وحملة تأييد البرادعى بدأت على هذا الموقع الإلكترونى، وانضم إليها أكثر من ربع مليون شخص أغلبهم من الشباب، فماذا يعنى ذلك للواقع السياسى المصرى؟ يعنى أولا أن التغيير الذى كثيرا مانتحدث عنه أو نطالب به قد بدأ بالفعل، وهو أكبر كثيرا مما نتصور، لأنه يدور غالبا فى «العالم الافتراضى»، الذى لا يراه بعض أباطرة «الواقع المؤسسى» بما فيه من ركود، ومقاومة للتغيير. ويعنى ثانيا أن أدوات التعبئة السياسية والإعلامية التقليدية تراجعت كثيرا لتفسح المجال لأدوات جديدة تتميز بالتفاعل والمشاركة ولا تقتصر على التلقى السلبى للملايين من المتلقين. ويعنى أيضا أن عصا الأمن المركزى التى تكفى أحياناً لمنع التجمهر أو تفريقه، لا تصلح للتعامل مع تلك الظاهرة الجديدة، خاصة بعد أن أثبت أبناء هذا الجيل الجديد أنهم على عكس مايصفهم به المشككون، فهم متفتحون على العالم متفائلون بقدرتهم على التغيير والأهم أنهم مستعدون أحيانا لدفع ثمنه. وأخيرا، فإن هذا الظاهرة الجديدة تبعث برسالة لكل القوى السياسية التقليدية بأنها ليست معادية للأحزاب كما يتصورون، لكنها معارضة للركود و الفساد والصفقات المريبة، وأنها لو توافرت لها القيادة السليمة فإنها يمكنها أن تتحول إلى «حركة». هذا أيضا ما نبه إليه أحد مستشارى هيلارى كلينتون أثناء حملتها الانتخابية، عندما أشار إلى أن تأييد أوباما تحول من حملة سياسية تقليدية إلى «حركة».. هنا سألته هيلارى: ما معنى ذلك؟ فأجاب: معناه أن «الحركة» لا يمكن هزيمتها!.