يرصد د. محمد المهدى، أستاذ الطب النفسى، حالة عشق الناس للعبة كرة القدم، ويحلل أسبابها وجذورها وأساطيرها، كاشفاً عن القناعات النفسية لدى الجمهور الذى يتعلق قلبه بالساحرة المستديرة. وفى الرصد أيضا، يحلل «المهدى» خصائص «عبقرية صلاح»، الفرعون المصرى ابن قرية نجريج بالغربية، الذى خطف قلوب الملايين الذين عشقوا لمساته للكرة بذات الدرجة التى عشقوا بها ذكاءه الاجتماعى وحسه المرهف بأحلام وآمال عشاقه فى كل مكان. ترقى صلاح من درجة «الحريف» إلى درجة «معشوق الجماهير»، ويرصد د. محمد المهدى فى التحليل، خصائص «العشق الفريد» الذى أحاطت به الملايين بطلهم الشاب محمد صلاح، صانع المجد الفردى فى الملاعب، وراسم البسمة على ملايين الوجوه فى ربوع مصر، وماسح الأحزان فى قريته مسقط رأسه، حيث أعماله الخيرية وأياديه الممدودة بالسلام والمحبة للجميع. خصائص فريدة للعبة الجمال والعدل والإثارة والقوة على المستطيل الأخضر، وخصال عبقرية للفرعون «ملك انجلترا المتوج»، الذى مزج بين «حرفنة» الكرة وأخلاق «الأبطال التاريخيين» مرفوعى الهامة فى لحظات النصر كما فى لحظات الهزيمة. محمد صلاح.. فرحة المصريين كثيرا ما تعلقت القلوب بنجوم الكرة الموهوبين على مر السنين، لكننا فى السنوات الأخيرة أمام ظاهرة استثنائية هى محمد صلاح لاعب الكرة المصرى الأسطورى الذى انتقل من لعب الكرة الشراب فى حوارى قرية نجريج مركز بسيون محافظة الغربية إلى قمة الأندية الأوروبية وتحول إلى بطل قومى تتجمع حوله قلوب المصريين وتملأ صوره الشوارع والميادين والطرق وشاشات التليفزيون. حين ترى وجه محمد صلاح لا تستطيع الالتفات عنه بسهولة فستؤسرك ملامحه وشعر رأسه ولحيته التى اكتسبت مع وجهه جمال الشواش، وتشعر بأنك أمام وجه مختلف عن كثيرين ممن تراهم كل يوم على الرغم من أنه بلحيته الكثة وشعره المنكوش (بعناية) يشبه الكثيرين من شباب مصر الذين تراهم كل يوم فى الشوارع، وأول وأقوى ما يشدك إليه نظرة عينيه اليقظة والمنتبهة والطموحة والجادة والمصممة والطيبة فى الوقت ذاته مع ابتسامته الهادئة المطمئنة التى تشع نورا أسطوريا فى وجهه الريفى البسيط، والذى يبدو كأنه فرغ لتوه من الوضوء وصلاة الفجر. وعلى الرغم من التزامه وانضباطه وجديته إلا أنه لم يحرم نفسه من إطلاق شعر رأسه وشعر لحيته فى مظهر شبابى عصرى أقرب للروشنة والتحرر، وكأنه يوازن بين جوهره ومظهره، أو بين الظل والقناع، أو بين الأصالة والمعاصرة، وكأنه فى حالة تصالح مع ذاته ومع سائر مكوناته النفسية، وينعكس كل هذا فى ملامح وجهه المليئة بالرضى والطمأنينة والسلام، وفى ابتسامته المضيئة التى تملأ وجهه السعيد المطمئن. النقلة الهائلة من اللعب بالكرة الشراب فى شوارع وحوارى قرية نجريج الزراعية الصغيرة فى دلتا مصر إلى نادى ليفربول وملاعب أوروبا والدورى الممتاز حيث عباقرة وأساطير الكرة العالمية، تلك النقلة حدثت فى زمن قصير نسبيا، ويبدو أن صاحبها محمد صلاح كان يتحلى بمجموعة جوانب نفسية وعبقريات شخصية ومهنية وأخلاقية أهّلته لأن يعبر الكثير من الحواجز والعقبات بثبات ملفت للنظر وبسرعة لا يكاد يتوقعها أحد وباستقرار نفسى ومهنى وأخلاقى فى ظروف بطبيعتها مزلزلة لأى تكوين نفسى عادى أو حتى متميز. والموهبة وحدها لا تصنع النجاح مهما كانت قوتها، إذ لابد من ذكاء عقلى ووجدانى واجتماعى لإدارة الموهبة والحفاظ على استمرارها وتوهجها، وهذا ما يتبدى فى حالة محمد صلاح، إذ يجمع بين الموهبة وبين ذكاء حاد (يطل من عينيه بوضوح) يرعى هذه الموهبة ويمهد لها الطريق ويذلل أمامها المصاعب ويحميها من التناثر أو الاحتراق. محمد صلاح الذى ولد عام 1992 م فى أسرة فقيرة لم تستطع تحقيق حلمه فى التعليم الجامعى ويضطر للالتحاق بمعهد اللاسلكى يصبح بعد سنوات أسطورة الكرة العالمية محققا الإنجازات التالية على سبيل المثال لا الحصر (ومازالت الإنجازات متدفقة حتى وقته وتاريخه): حاز جائزة أفضل لاعب أفريقى صاعد لعام 2012، ثم جائزة لاعب الموسم فى نادى روما 2015/2016، وكان أول لاعب مصرى يفوز بجائزة أفضل لاعب فى الشهر خلال منافسات الدورى الإنجليزى، ثم اختير ضمن التشكيلة المثالية لبطولة الأمم الأفريقية عام 2017، وحاز جائزة BBC لأفضل لاعب أفريقى عام 2017. إذن ما هو السر وراء هذا الصعود المضطرد والسريع لهذا الشاب الريفى البسيط؟ تبدو الاستقامة أحد عوامل النجاح المهمة عند محمد صلاح فحياته تتسم بالانضباط الشديد والالتزام المهنى والأخلاقى والشخصى، فعلى الرغم من نجاحاته المبهرة وعبقريته الكروية العظيمة وشهرته ونجوميته وكاريزمته، إلا أنه لم ينجرف مع ما انجرف فيه من هم فى مثل هذه الظروف أو حتى أقل بكثير، فلديه حالة ثبات عجيبة أمام إغراءات وإغواءات الشهرة والنجومية، ولديه موقف متواضع فى كبرياء يتحدى كل إغراءات الغرور وانتفاخ الذات، وهذه عبقرية أخرى تضاف إلى عبقريته الكروية. ويشير عمدة قريته إلى هذا البعد المهم فى شخصية صلاح بقوله: إن صلاح ورغم احترافه فى أكثر من نادٍ أوروبى مازال يصر على قضاء إجازته السنوية فى مسقط رأسه، ولا يتأخر عن مشاركه أبناء القرية فى أفراحهم وأحزانهم، ودائماً يحرص على قضاء العيد وسط أسرته وأصدقائه، فضلاً عن قيامه بأعمال الخير فى القرية، مضيفاً أن صلاح، ومنذ عهدناه طفلاً، لم نشاهده إلا مواظباً على الصلاة وقراءة القرآن والمشاركة فى المناسبات الاجتماعية التى تخص أبناء قريته، كما لم نشاهده يوماً ما متورطاً فى مشاجرة أو متلفظاً بلفظ غير لائق، فلم نر منه إلا كل خير وكل جميل. ومحمد صلاح يتمتع بمجموعة عبقريات على مستويات نفسية متعددة نذكر منها: ■ عبقريته الأخلاقية، وتتبدى فى قدرته على الاحتفاظ بتوازنه أمام بريق وإغواءات الشهرة والنجاح، وقدرته على الثبات والتوجه مباشرة نحو أهدافه فى تحقيق أعلى مستوى من الأداء يتجاوز به كل المستويات المعروفة محليا وعالميا، ويجعل النجوم العالميين يتراجعون وراءه واحدا بعد الآخر، وهو منطلق كالصاروخ نحو هدف لا يعرفه أو يتوقعه أحد، فيبدو أن سقف طموحه أعلى بكثير مما يتوقعه الناس. وعلى الرغم من كثرة معجبيه وكثرة أسفاره وتحركاته وصوره، لم تلتقط له أى صورة فى وضع غير مناسب، وغالبية صوره تراها فى الملاعب مع الكرة، أو يداعب ابنته «مكة»، أو يتزلج على الجليد، أو يزور الأهرامات، أو أمام برج إيفل، أو أمام المسجد الأقصى فى القدس، أو يصطاد سمك، أو يسبح فى الماء وحيدا، أو مع أطفال قريته. ■ عبقرية الوقت لديه، وتظهر فى انطلاقته السريعة جدا من طفل يلعب الكرة فى قريته الصغيرة، ثم ينتقل إلى نادى المقاولون العرب، ثم يدق على أبواب أندية الدرجة الأولى مثل نادى الزمالك، وحين لم يوفق فى الالتحاق به، تطلعت عيناه الصاحيتان المفتوحتان عن آخرهما إلى الآفاق العالمية والاحتراف الدولى، وحين يصل إليه لم يركن إلى مكانته فى ناد واحد، وإنما ينتقل وبسرعة من ناد إلى ناد أفضل، وانتقالاته ليست اندفاعات متهورة، أو تقلبات انفعالية، أو خلافات مع الإدارة، أو قفزات فى الفراغ، أو عقوبات فنية أو إدارية، وإنما نقلات محسوبة ومتوجهة نحو المعالى والتميز ثم التميز الأعلى بلا نهاية، فهو لا يضيع لحظة دون عمل وإنجاز على طريق يرى بداياته ونهاياته بوضوح شديد، ولا يلتفت يمينا أو يسارا إلى شىء يعطله ولو لحظة عن تحقيق هدفه. ولا يتخيل أحد كيف كان محمد صلاح وهو طالب صغير يخرج من مدرسته كل يوم فى العاشرة صباحا بإذن خاص من إدارة المدرسة لكى يسافر على أربع مراحل من قريته إلى نادى المقاولون العرب ليتدرب هناك، حيث يقطع المسافة فيما لا يقل عن ثلاث ساعات ذهابا ومثلها إيابا، ويكرر ذلك لسنوات بإصرار عجيب مع ما يمثله ذلك من إرهاق شديد وحرمانه وهو لايزال طفلا مما يتمتع به أمثاله من اللهو واللعب أو حتى الراحة والاسترخاء. ■ عبقريته الأسرية، وتتبدى فى استقراره الأسرى من حيث انتمائه لأسرة مصرية ريفية بسيطة واعتزازه بذلك الانتماء والارتباط القوى بأسرته وقريته ووطنه، وارتباطه بزوجته وابنته على الرغم من دوائره العالمية التى تتسع يوما بعد يوم ومعجبيه ومعجباته الذين يملأون الدنيا ويتشوقون إلى نظرة منه، وهذا الاستقرار الأسرى ربما يحميه من انزلاقات كثيرة يقع فيها من هم فى مثل ظروفه ويكلفهم ذلك تضييع الكثير من طاقاتهم ووقتهم وتميزهم. ومن المعتاد فى الأسر المصرية التقليدية أن تقف أمام انشغال أبنائها بلعب الكرة وتعتبر ذلك تضييعا لوقتهم وانشغالا عن دراستهم التى يعتبرونها أهم من ممارسة أى رياضة، ولكن هذا لم يكن موجودا فى أسرة محمد صلاح إذ كان والده يشجعه على تحقيق حلمه، على الرغم من أن هذا الحلم لم يكن واضحا فى ذلك الوقت. وقد حرص صلاح على أن يصطحب والديه وإخوته إلى أوروبا، وأن ينزل من أوروبا عام 2013 م، زاهدا فى فتياتها ليتزوج فتاة محلية من القرية هى صديقة طفولته ماجى محمد وينجب منها ابنة سمّاها «مكة» (ذلك الاسم الذى يعكس الخلفية الدينية لدى صلاح وزوجته)، ليشكل هذا الكيان الأسرى قاعدة انطلاق ثابتة وراسخة، ولكى تحميه هذه الدائرة الأسرية من مغريات وغوايات الحياة فى أوروبا خاصة لمن هم فى مثل شهرته. ومن حسن حظه أنه نشأ فى أسرة كروية فوالده كان لاعبا مميزا وعمه وخاله كذلك، وكان الثلاثة يلعبون فى فريق القرية، ويتمتعون بمهارات عالية، وتربى محمد صلاح وسط عائلة تعشق وتقدر كرة القدم، ولاحظ والده موهبته منذ البداية فشجعه وتعب معه كثيرا، وكان يتحمل عناء اصطحابه وهو طفل من نجريج فى محافظة الغربية إلى القاهرة حيث نادى المقاولون العرب، وظل يدعمه حتى وصل إلى العالمية، وكأن القدر ساق محمد صلاح ليحقق طموحات أسرته الكروية. ويذكر أن الطفل محمد كان تبدو عليه ومنذ الصغر الموهبة الكبيرة، فقد كان يغازل الكرة «بطريقة مارادونية»، وتنبأ له الجميع بمستقبل باهر، وعقب وصوله لسن السابعة ألحقه والده بأندية المحلة وبلدية المحلة التى تبعد عن مركز بسيون بحوالى 30 كيلومتراً، وبسبب المسافة الكبيرة، والإرهاق الشديد الذى كان يعانيه الطفل الصغير نتيجة السفر يومياً للتدريب، قام والده بنقله لنادى بسيون القريب من القرية. وقد كان انتقال محمد صلاح لفريق المقاولون صدفة عجيبة فقد كان أحد الكشافين للمواهب الصغيرة، ويدعى رضا الملاح، قادماً للقرية لمشاهدة لاعب اسمه شريف لضمه لنادى عثماسون التابع لشركة المقاولون العرب، وفور وصوله لمركز شباب القرية لمشاهدة شريف طلب منه أن يشارك زملاءه الصغار فى تقسيمة كروية لرؤيته على الطبيعة، وكان من بين هؤلاء الأطفال الصغار محمد صلاح، وبدأت التقسيمة وانبهر الكابتن رضا الملاح بمحمد صلاح وناداه وطلب منه مقابلة والده، حيث اتفق معه على ضم ابنه لنادى عثماسون. وكان محمد صلاح- رغم صغر سنه - يسافر وحده يومياً للقاهرة للتدريب، وكان والده ينتظره أمام محطة القطار بالساعات فى البرد القارس والحر القائظ، وخلال سنوات من التعب والجهد والمشقة بزغ نجم محمد صلاح، وبدأ يخطو خطواته الأولى نحو التألق والنجومية. ويحكى عنه أهل قريته أنه ارتبط بقصة حب مع زميلته فى المدرسة الإعدادية، وهى من أبناء القرية أيضاً، وبادلته الحب، ولكن لم يسمع أحد بهذه القصة، فلم يلتقيا ولو مرة واحدة، بحكم العادات والتقاليد، ولكن كان حبهما صامتاً، وعقب احترافه فى نادى بازل السويسرى استغل صلاح أول إجازة يحصل عليها من ناديه الجديد، وتقدم لوالدها بعد سنوات طويلة من الحب الصامت الراقى والنظيف، وتمت خطبتهما وزواجهما فى حفل بهيج، وأصر صلاح على إقامته فى القرية ومشاركه أهالى قريته لفرحته. ■ عبقرية انتمائه، فهو دائم التردد على قريته خاصة فى رمضان مع عطاءات مادية ومعنوية كثيرة لأهل قريته فأعطى تبرعات لمدرسته القديمة، وهدايا لأطفال القرية، وساعد فى شراء مستلزمات الزواج لعدد من الشباب الفقراء، وهو يفعل ذلك فى صمت، ولم يرد منه وجاهة أو مدحا أو شهرة فهو فى غنى عن كل ذلك، وإنما فعله لبذرة خير فى داخله ولشعوره الدائم بالانتماء لهذا المجتمع القروى البسيط والصغير. ■ عبقريته فى البعد عن الصراعات المستنزفة للطاقة، فلم نره يدخل فى حوارات أو منازعات أو خلافات أو استقطابات مجهدة مع أحد، فهو يضن بوقته وجهده على أى شىء من ذلك، إذ لا يوجد لديه وقت يضيعه فى أى شىء من ذلك، وبالتالى حافظ على كل وحدة طاقة وعلى كل وحدة زمن ليندفع كل يوم إلى تحقيق تميز جديد والارتقاء إلى مستويات أعلى وغير متوقعة فى الأداء. ■ عبقريته فى البعد عن الاستقطابات السياسية أو الدينية، إذ تعلم صلاح الدرس من نجوم سابقين فنأى بنفسه عن أى تصريحات أو سلوكيات تجعله محسوبا على تيار سياسى أو دينى معين فظل محبوبا ومقبولا ومعشوقا من الجميع كبارا وصغارا. ■ عبقرية الحفاظ على صحته، فمن المعروف عنه أنه يهتم بكل تفاصيل حالته الصحية فلا يسهر ولا يدخن ولا يتعاطى أى شىء يؤثر فى سلامته النفسية والجسدية، ولا يقضى أوقاتا مع شلة تأخذه يمينا أو يسارا، وليست لديه علاقات جانبية تستنزف طاقته النفسية أو الجسدية أو تشتت وعيه وانتباهه وتركيزه، فتراه دائما فى صحة جيدة وفى حالة تركيز وانتباه ويقظة، وهذا ينعكس فى سرعته الفائقة فى الملعب وانتباهه الحاد لكل حركة تحدث من حوله وسرعة إدراكه وتصرفه فى المواقف الحرجة، وانتهاز الفرص للتسديد الموجه بدقة. ■ عبقرية عصاميته، فهو قد شق طريقه بمجهوده الشخصى تماما، ولم يستفد من أى توصية أو أى وساطة أو أى مساعدة من هذا أو ذاك، بل شق طريقه محليا وعالميا بموهبته المتفردة ومجهوده الفائق والمتدفق، وهو كأى عصامى هاجسه الصعود الدائم والمستمر، فهو لا يتوقف عند مستوى معين من النجاح ويكتفى بذلك ويستريح ويجنى ثمرة نجاحه فى رفاهية العيش والتمتع بحب المعجبين والمعجبات، ونيل حظ نفسه من متع الدنيا، خاصة أن شهرته ونجوميته أعطته مالا وفيرا وحبا جارفا وانبهارا يأخذ بالألباب ويهز النفوس ويزلزل ثباتها ويخل بتوازنها، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما لم يلتفت إليه فكأنه جاء إلى الحياة بشكل أسطورى ليؤدى مهمة عظيمة، وعيناه مركزة على هذه المهمة ولا يكاد يرى ما حوله من مغريات، وكأنه زاهد فى كل شىء إلا نجاحه وتميزه، وكأنه ناسك فى محراب الكرة، ومنصرف عن كل التعلقات والشواغل والمغريات، ومتبتل فى مهنته التى هى- لحسن الحظ- هوايته ومعشوقته. ■ عبقرية أيقونته ورمزيته، فمحمد صلاح لم يعد مجرد لاعب كرة يهتم به من يعشقون كرة القدم أو يتابعونها، بل تجاوز هذا بكثير، بحيث أصبح أيقونة نجاح عظيمة ومبهرة ورمزا لكل ما هو جميل فى حياة أى شاب مصرى عربى مسلم، وأصبح يجسد كل قيم الكفاح والصمود والنقاء والكبرياء والتواضع والشموخ والعزيمة والإصرار والحب والطموح بلا حدود وكسر كل الحواجز والانطلاق بسرعة صاروخية نحو النجاح النظيف الخالى من أى شوائب، وأصبح رمزا للاستقامة والنظام والنظافة والانضباط والالتزام والوطنية والعالمية والإنسانية، فأصبح قدوة لأى شاب ليس فقط فى بلده مصر بل فى أى بلد فى العالم. ولهذا ليس غريبا أن توضع له أغان تمجد فيه فى أكثر من بلد أوروبى وبأكثر من لغة يغنيها الكبار والأطفال. ■ عبقرية تواضعه، فعلى الرغم من كاريزمته الهائلة ونجاحه منقطع النظير، وتقدمه فى مجاله بشكل سريع جدا رغم صغر سنه، وانتقاله من مجاله القروى البسيط إلى آفاق عالمية عالية المستوى، وحصوله على المال الوفير والشهرة الفائقة والنجاح المتصاعد، إلا أنه لم يفقد قدرته على الثبات والاتزان، ولم يفقد بساطته وتواضعه، ولم تنتفخ ذاته أو تتضخم، ولم يسقط فى بحر الغرور أو التعالى، وهذا ينم عن تماسك نفسى عميق وثبات انفعالى هائل، وتوازن أخلاقى راسخ، وهذا شىء مذهل فى شخصيته، إذ على الرغم من حركته الواسعة والمتدفقة والسريعة نحو النجاح المتصاعد، إلا أن لديه حالة هدوء وطمأنينة وسلام نفسى وتواضع يوازنان حركته وانطلاقته الصاروخية، وربما يساعد فى ذلك ما يتحلى به من قيم دينية، وقيم أخلاقية، وفطرة ريفية بسيطة ومستقرة، وأسرة متماسكة ومساندة وداعمة، ومتواجدة معه حتى فى أوروبا. ■ عبقريته كبطل قومى، فقد جاء نجاح محمد صلاح فى ظروف قاسية مرت بها مصر والعالم العربى، انهارت فيها أخلاق الناس وتساقطت الرموز والقيادات، وسادت حالة من اليأس والإحباط والألم بسبب التقلبات والاستقطابات السياسية والأزمات الاقتصادية والمؤامرات العالمية، فكان محمد صلاح سببا أساسيا للشعور بالبهجة والشعور بالانتصار والشعور بالكرامة، والأمل فى النجاح مهما كانت التحديات والعقبات والأزمات، وأصبح محمد صلاح نبراسا لأى طفل أو مراهق أو شاب، وأعاد الثقة إلى قيم العمل والصبر والمثابرة والصمود والكفاح وتحديد الهدف والارتقاء المستمر نحو المعالى، فانتشل الملايين من هوة اليأس والقنوط، لذلك تحول من مجرد لاعب كرة ناجح ومتفرد إلى بطل قومى وإلى رمز لكل ما هو ناجح وإيجابى وجميل وراق وأخلاقى، خاصة حين صعد بالمنتخب المصرى إلى كأس العالم بعد مضى ثلاثة عقود ومصر بعيدة عن هذا المستوى. وتنتشر صور محمد صلاح فى طول مصر وعرضها، وأى شركة أو مؤسسة تريد جذب الأنظار لمنتجاتها أو نشاطها تضع صورة محمد صلاح، وقد جعل هذا صلاح وجها مألوفا ومحبوبا للجميع، ورمزا للمصريين يتفقون عليه رغم اختلاف توجهاتهم، ورغم ما بينهم من تباينات خاصة بعد الثورة والفترة الانتقالية والنزاعات السياسية، فقد نجح محمد صلاح فى توحيد قلوب المصريين على ابن عبقرى من صلبهم ومن بيئتهم ومن عمق جوهرهم الحضارى. وهو ليس فقط بطلا محليا بل بطل عالمى ترى صوره فى أى بلد تذهب إليه على الكثير من الإعلانات والنشاطات الكروية وغير الكروية، ويؤلفون له الأغانى التى تعبر عن حب جارف. وبهذا كان لمحمد صلاح دور هائل فى تحسين صورة المصرى والعربى والمسلم فى وعى المواطن الأوروبى. ولم تكن رحلة صلاح كلها وردية وناجحة، وإنما عاش محطات إحباط قاسية، أولاها حين رفضت إدارة نادى الزمالك شراءه من نادى المقاولون زهدا فيه وتقليلا من قيمته مقارنة بالمبلغ الذى كان مطلوبا فيه، ووقتها تحطم حلمه فى الالتحاق بأحد فريقى القمة الكروية فى مصر، وعانى أيضا إحباطا حين التحق بنادى شيلسى فى إنجلترا، وكان يشارك فى عدد قليل من المباريات ويقضى أغلب وقته على دكة الاحتياطى، ولكنه كان يحشد فى داخله طاقة تحد من هذه المحطات السلبية المحبطة ليبث هذه الطاقة جهدا إيجابيا فى أول محطة تسمح بتفجر طاقاته الهائلة. ولغة الجسد عند محمد صلاح تعكس الكثير عن شخصيته وعبقريته، ففى أكثر صورة تراه مرفوع الرأس متطلعا إلى الأمام وإلى أعلى، أو تراه كأنه يطير، أو تراه فاتحا ذراعيه للنجاح ومبتسما فى رضى، وقد كان المشهد القصير فى مباراة الكونغو 8 أكتوبر 2017 م مجسدا لما هو أكثر من ذلك، فقد عايش محمد صلاح الحدث بكل مراحله وتنوعت مشاعره وتعبيراته بشكل طبيعى جدا ومذهل جدا، فمن المعروف أننا أمام أى حدث صدمى نمر بعدد من الحالات النفسية أولاها الصدمة، وثانيتها الإنكار وثالثتها الغضب ورابعتها الحزن وخامستها التعافى والعودة إلى الحياة الطبيعية أو الاستمرار فى حالة الحزن والانكسار، أما ما حدث لصلاح فكان أكثر ثراء من ذلك، وتداخلت بعض المراحل فى بعضها البعض وتواصلت تلك المشاعر مع مشاعر وتعبيرات ملايين المشاهدين والمعجبين فكأنه كان مايسترو يعزف سيمفونية وجدانية مع ملايين البشر، فقد شعر بالصدمة وظهر على وجهه الذهول حين سجل فريق الكونغو هدف التعادل فى الدقائق الأخيرة للمباراة والذى يعنى عدم تأهل مصر لكأس العالم، وراح يضرب وجهه بيديه فى حسرة وألم، وراح ينظر كأنه لا يصدق أن ما حدث قد حدث، ثم يسيطر عليه حزن شديد يستجيب له بإلقاء جسده فى حركة انبطاح على الأرض ويدفن رأسه بين يديه وكأنه لا يحتمل رؤية المشهد، وهنا يتداخل الحزن مع الإنكار، ثم يحاول رفع رأسه للحظة قصيرة لكنها تسقط منه على الأرض مرة أخرى فى تعبير يائس حزين، إذ لم يتبق على نهاية المباراة غير ثلاث دقائق، لكنه مع ذلك لم يستسلم فبدأ بتحريك ذراعيه ورجليه ليقوم من وضع الانبطاح فى محاولة لقبول الأمر الواقع والتعامل معه، وحين يقف منتصبا يعاوده شعور بالحزن والأسى والندم فيضرب بيديه على رجليه، ويشعر هنا بقلة الحيلة فيدفع بذراعيه إلى الخلف محاولا شد أزره، ثم يشبك يديه خلف رأسه وتعلو وجهه علامات الحزن الممزوجة بالحسرة والغضب، ويتحول الغضب إلى صرخة بأعلى صوته، وفجأة تتغير الصورة فتظهر فى عينيه نظرات التحدى والإصرار ممزوجة بألم وحزن وغضب، وفى ثوان قليلة تظهر على وجهه علامات الأمل فيرفع يديه وذراعيه ويرفرف بهما لأعلى كأنه يستحث نفسه وزملاءه والجمهور لمواصلة الجهد ومواصلة التشجيع، ويستجيب الجميع لهذا النداء العبقرى النادر، ويدب الحماس فى أوصاله فيصفق كأنه منتصر، وهذا حدس عجيب، فكأنما يقرأ ما سيحدث فعلا بعد دقيقتين، حيث يسجل هدف الفوز فى الدقيقة الأخيرة للمباراة ويصعد الفريق المصرى لكأس العالم، ويرفع محمد صلاح إصبعى يديه السبابة إلى أعلى متطلعا نحو السماء حامدا شاكرا. هل يتصور أحد أن هذا السيناريو يحدث وتلك المراحل الوجدانية تتحقق وتتتابع وتتداخل فى دقيقة واحدة، وكأن هذا المشهد يعكس، فى تكثيف شديد، سيناريو حياة هذا البطل الاستثنائى من حيث الثراء والتنوع والسرعة والتحولات المتجهة نحو الانتصار فى أحلك الظروف وضد قوانين المنطق والواقع المحبط. حقا هذا المشهد الفريد الذى تناقلته كل المواقع وصفحات التواصل الاجتماعى يلخص جوانب عبقرية وشخصية محمد صلاح أيقونة النجاح والطموح والتميز والانتصار ليس فقط فى المجال الكروى بل فى المجال الحياتى والإنسانى. *أستاذ الطب النفسى