إنني لا ولن أعتذر عن أي هجوم أو حدة لهجة مقصودة سوف ينضح بها هذا المقال، لأنها على حدتها لا تعبر عن كل ما في صدري من استياء بل وتقزز من موقف أشاوس ما يسمى ب"الثورة" من أحداث قنا. فأنا لم أحمل في نفسي عداء وحنقاً على ما يسمى "الثورة" بقدر ما شعرت ومازلت أشعر به وأنا أتابع مهزلة ما يحدث في قنا. تصاعدت مشاعري يوماً تلو الآخر وأنا أتابع تطورات هذه الكارثة ولكني آثرت أن أنتظر علَ شباب الثورة السعيد يفاجئني بما يخيب يظني ويطمئنني إلى ما أبت نفسي أن تأمن إليه من أن من أصروا على إسقاط النظام يدركوا تبعات مطالبهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأنهم على مستوى المسئولية السياسية في مواجهة التحديات التي يضعهم ويضعنا هذا المطلب أمامها، وأنهم قادرون على إحلال النظام الذي طالبوا بإسقاطه بدولة حديثة متماسكة، شريفة، نزيهة، عادلة، قوية. توالت الأنباء وأخبار المظاهرات والاعتصامات الطائفية الدميمة، وفي مقابلها أطبق صمت رهيب جبان متخاذل إلى حد التواطؤ، على من أمطرونا هتافات وشعارات وصراخ ظننا معه أنهم يضمنون لنا بأرواحهم أن تعلو أصوات الحرية والعدالة والتسامح والمواطنة والقانون على أصوات الجهل والعصبية والرجعية والتشدد والفوضى، التي أوقن وإن أنكروا هم كما يحلو لهم الإنكار أنها متغلغلة في نفوس وعقول وضمائر الأغلبية الكاسحة من أبناء هذا الشعب. كنت أظنهم يحشدوا الحشود العريضة مليونية تلو الأخرى ليواجهوا بها أصوات الطائفية والتعصب الديني التي صرخت عالية واضحة لا لبس فيها في مظاهرات واعتصامات لوت ذراع الدولة وأخذتها رهينة مطالبها الطائفية. كنت أظنهم يردوا بحسم لا يقبل التفاوض على دعاوى التعصب التي حاولت أن تستر عورتها بخلط لهجتها الطائفية باتهامات أي كانت صحتها تتعلق بماض مشبوه للمحافظ القبطي الجديد. انتظرت ... وكلما تصاعدت الأحداث بات صمتهم وتخاذلهم أكثر جبناً وتواطئاً كأنه القبح تفضحه أضواء كشاف تشتد قوتها وتزداد إضاءته فتكشف ما كان الظلام لا يظهر منه إلا ظلالاً. ولو أن ما حدث في قنا اقتصر على الطائفية لربما هانت (وما كانت لتهن بأي حال)، ولكن شباب الثورة السعيد فشل في أن يقرأ ما بين سطور الأحداث من خطر داهم يتهدد مستقبل هذا البلد وينبئ ولا شك بكارثة باتت وشيكة أكثر من ذي قبل. فالمظاهرات التي خرجت حاشدة تهتف "اسلامية .. اسلامية" ذكرتني بهتاف احتجاجات 25 يناير "سلمية .. سلمية" باضافة "الف" ليس إلا في أول الكلمة. فما لا يدركه من شارك وأيد إسقاط النظام، هو أن ما تهتف به الجموع في البداية على استيحاء (مثلما هتفت في منتصف يوم 25 يناير "الشعب يريد إسقاط النظام" على استيحاء أولاً ثم تعالى هتافها فتشدد تمسكها بما لم يكن مطلبها أساساً حين خرجت تتظاهر) قد يتحول بنفس الشكل وبنفس ميكانيزمات الحشد والتعبئة للوعي الجمعي للشعوب إلى هتافاً ثم مطلباً صريحاً جريئاً لا رجعة عنه. ولم يعد مطلب إقامة الدولة الدينية على طريقة إيران والسعودية وأفغانستان مجرد توجسات أو شطحات تصريحات سلفي أو قيادي في جماعة الإخوان المسلمين تخرج علينا من وقت لآخر ثم يتم نفيها نفياً حاسماً أحياناً وأقل حسماً في أغلب الأحيان. ولا يمكنني أن أخفي أو أمنع خوفي من أن الأيام القادمة سوف تشهد تكرار مثل هذه الهتافات بجرأة وتشدد أكبر وحشود أوسع مع أول أزمة سياسية قادمة تسمح باستدعائها. ثم أن من ذهب ممثلاً عما يسمى "بشباب الثورة" (ولا نعرف من هم تحديداً إن كانوا هم أصلاً يعرفون أنفسهم) متطوعاً بالوساطة في حل الأزمة (جنباً إلى جنب الشيخ الجليل محمد حسان والدكتور صفوت حجازي مفوضي دولة ما بعد "الثورة" في حل الأزمات السياسية المستعصية) وإيجاد مخرج آمن من كارثة باتت تهدد بأن تطال البلاد طولاً وعرضاً، إذ به يخرج علينا ببيان أقل ما يقال عنه أنه مخزي، سخيف، مقزز، إن دل على شيء إنما يدل على عدم إدراكه أو فهمه لما ينطوي عليه ما حدث من رسائل سياسية خطيرة وأكثر من ذلك عدم إدراك لما يؤدي إليه الحل الذي اقترحه البيان من كارثة على كل المستويات ليس أقلها الطائفية. فمن يدعي أو يريدنا أن نصدق أن مطلب المتظاهرين الرئيسي مهما حاولوا تغليفه لم يكن استبدال المحافظ القبطي بمحافظ مسلم قولاً واحداً لا تفاوض فيه، هو كاذب وكاذب وكاذب. ومن هنا تبدأ القضية وإلى هنا يجب أن تنتهي. وبالتالي فالحلول التي اقترحها البيان من أن يتولى عسكري منصب المحافظ لمدة ثلاثة أشهر (محرم على ما يبدو) يتم بعدها تعيين محافظ مدني (شريطة أن يكون مسلم، ولكن البيان يراهن على سذاجة من يقرؤه فلا يقولها صراحة) أو أن يتم تعيين المحافظ الجديد بالانتخاب، هي حلول تتجاهل عمداً أو جبناً وعجزاً بمعنى أدق مربط الفرس في هذه الآزمة. فالحل الأوقع والأمثل لو لم تكن الطائفية الدميمة هي المحرك الرئيسي لما حدث، كان حتماً أن يتم استبدال ميخائيل بمحافظ مسيحي آخر لا يشوب تاريخه السياسي أو المهني أو الشخصي شائبة فساد أو تواطؤ في فساد. ولكانت قنا في هذه الحالة قد كسبت احترامنا لوقوفها بجرأة وحسم وشجاعة رجالها ضد حركة تعيينات لمحافظين أغلبهم تحوم حولهم الشبهات من قريب أو بعيد. إلا أن من تفاوض على الحل الذي اقترحه البيان يعلم كما نعلم علم اليقين أن المطلب الطائفي أقوى من أية اعتبارات أخرى من تلك التي يحاول أن يبيعها لنا بكل جبن (ولا أبالغ إن قلت "استهبال") شباب "الثورة" أو "أشاوس البيان". ومع ذلك كان هناك حلاً بديلاً أقل مثالية وأكثر مهادنة (أو قل "تواطؤ")، يتمثل في أن يقدم ميخائيل استقالته، ويتم نقل محافظ من محافظات الصعيد الأخرى إلى قنا إخماداً للأزمة، ثم يتم تعيين محافظ مسيحي مكان المحافظ الذي يتم نقله إلى قنا. ولكن شباب الثورة الأشاوس يعلمون كما أعلم أن حلاً كهذا كان سوف يؤدي حتماً إلى اشتعال (أو ترحيل) الفتنة الطائفية في محافظة أخرى لتثبت لهم ولمن أرادوا استهبالهم بحلهم السخيف الأبعاد الطائفية لما حدث في قنا والتي لا تخص قنا وحدها ولكنها تخص أغلب محافظات مصر. لكن الأدهى في الحل الميمون الذي اقترحه البيان هو أنه يجعل من مصر البلد الوحيد في العالم الذي يكلف فيه كل محافظي المحافظات بالتعيين، بينما يأتي محافظ محافظة واحدة من دون المحافظات بالانتخاب، لا لشيء إلا لأن حظها السعيد أتى لها بمحافظ قبطي أهلها لهذه الميزة التي حرمت منها بقية محافظات مصر. أقول لمن اقترحوا هذا الحل العبقري يبدو أن مرجعيتكم السياسية في إدارة الدول هي كتاب "سمك، لبن، تمر هندي". إن رد الفعل الرخو المتخاذل السخيف المفتقر للقدرة على تقدير الأبعاد الحقيقية للأزمات ولطريقة التعامل معها، ليس جديداً على "الثورة"، فقد رأينا مثله حين جرى الاستفتاء على تعديلات دستورية ثم صدر إعلان دستوري لم يكن هناك أي حديث عنه ولم يطرح لأي استفتاء أو حوار فصمتت "الثورة" وكأنها لم تفهم ما يعنيه ذلك وما سوف ينبني عليه من تبعات. وحين قبض على مايكل نبيل لأنه حلل بالرأي والاستشهادات الموضوعية موقف الجيش من مطالب "الثورة" دون أن يدعو إلى مواجهة عنيفة مع الجيش، أو إلى أي أعمال شغب أو بلطجة، فحكم عليه بالسجن لثلاثة سنوات في محاكمة الجيش فيها خصم وحكم في نفس الوقت، صمتت الثورة لاعتبارات كثيرة أغلبها يتعلق بخوفها من أن يجر عليها دفاعها عنه اتهامها بتأييد مواقفه السياسية والدينية الأخرى التي هي محل جدال، دون أن تدرك (إن كانت قادرة على إدراك أي شيء أصلاً) ما ينطوي عليه صمتها من خطر على مصير الحريات ومساحة التعبير والحق في محاكمة عادلة في هذا البلد (لا أظنها على أي حال منشغلة بمسألة "المحاكمة العادلة" هذه حيث أني لا أظنها سوف تمانع في أن يتم إعدام رموز النظام القديم كلهم بدون محاكمات أصلاً إذا لزم الأمر حيث أن دولة القانون التي تنادي بها لا غضاضة في التغاضي عنها في حق معارضيها أو من تنتظر أن تصفي معهم الحسابات). ما حدث في قنا لم يكن مفاجئة لمن أبت شجاعته وصراحته مع نفسه ومع الواقع أن يتجاهل أو ينكر بمثالية بلهاء ما يرقد تحت قشرة البركان النائم من حمم تعصب وقبلية وتشدد ورجعية وجهل، ولم يقبل أن ينسج أحلاماً وردية يصدقها فيحلو له تصديقها واجترارها مع من لا يملكوا من رؤية الواقع إلا ما تصوره لهم أحلام يقظتهم. وما حدث في قنا كان تحدياً صريحاً لا لسيادة الدولة وحدها، وإنما للمبادئ الأساسية التي لا يمكن أن تفتقر إليها دولة حديثة دون أن تنجرف إلى مستنقع الفاشية السياسية والتطرف الديني أو أسوأ من ذلك الحرب الأهلية. غير أن كارثة ما حدث على شدتها، لا تساوي من قريب أو من بعيد موقف "الثورة" المتخاذل والجبان والرخو والمفتقد للوعي وللحسم وللقدرة على إدارة الأمور وفهم وقراءة الأبعاد والنتائج السياسية والاجتماعية لما يحدث ولرد فعله عليه. إن "الثورة" لم يكن لها في أي وقت تصوراً واضحاً أو حتى غير واضح لكيفية إقامة الدولة الأفلاطونية التي صورتها لها أحلام يقظتها وجهلها بواقع حال هذا الشعب بعيداً عن دوائرها الاجتماعية والثقافية والسياسية الضيقة والمعزولة عن واقع هذا البلد. غير أن جرمها الأكبر الذي لن يغفره لها التاريخ، هو فشلها في استعمال سلاحها الوحيد أي التظاهر والاحتجاج الذي كنا نظن أنها سوف تشهره باستماتة في وجه ما يتهدد هذه المرحلة الانتقالية من منعطفات خطيرة. فما حدث من 25 يناير حتى الآن يجعلني أتيقن أن من صنعوا هذه "الثورة" تتعالى أصواتهم بالهتاف انتصاراً لشعارات ومواقف رمزية، ويصمتوا صمتاً مميتاً حين تدق طبول الكوارث الحقيقية. والأدهى أنهم حين يخرجوا من صمتهم يدقوا عن قصد أو عن غير قصد مسماراً آخر في نعش الدولة ليمهدوا بحنكة يحسدوا عليها لإقامة "دولة قنا" التي ما كنا لنسمع بها لولا ما وضعتنا أمامه "ثورة ال "لا دولة". [email protected] نص البيان لمن لم يقرؤه: https://www.facebook.com/notes/mostafa-alnagar/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5-...