كثر الحديث عن نوع النموذج الديمقراطى المناسب لمصر فى المرحلة المقبلة، فهناك من يتكلم عن النموذج الهندى أو الإيرانى أو التركى...إلخ. وبما أن تركيا واليونان دولتان متجاورتان، تربطهما صلة «الإخوة الأعداء»، فأريد هنا أن أتكلم عن النموذج اليونانى. فرغم أنه مختلف عن كل ما نعرفه من أنماط للديمقراطية، فهو يبدو مناسباً فعلاً فى حالة «مصر الثورة». لا يوجد فى النموذج اليونانى مجلس برلمانى بالمعنى المتعارف عليه فى الدول الأخرى، ولا يجتمع المجلس تحت قبة، إنما يتجمع المواطنون أسبوعياً فى ساحة عامة- تسمى بساحة أجورا- للتعبير عن آرائهم ومناقشة الاقتراحات المتعلقة بإدارة وتطوير البلاد.. وفى أول جلسة من كل شهر، يستمع هذا المجلس المفتوح للمقترحات المتعلقة بتشريعات جديدة، ويصوت عليها كل الموجودين. ويفتتح هذا الاجتماع الشهرى فى الصباح الباكر، بعد ذبح القربان المناسب، لتتم مناقشة المقترحات التشريعية والتأكد من دستوريتها قبل التصويت عليها. واليونان ليس بها دستور مكتوب، بل «إعلان دستورى» ضمنى يتطلب ألا تتعارض القوانين المطروحة مع القوانين السابقة عليها، وأيضا مع القوانين الإلهية التى هى المصدر الأساسى للتشريع (رغم أنه تم تخفيف هذا الشرط الأخير حتى تلاشى تدريجيا). ولا تتضمن القوانين الناتجة عادة على عقوبات بالسجن، أما العقوبات المفضلة فهى الغرامات والنفى والتهجير والجلد والإعدام.. أما السلطة التنفيذية، التى ترعى إدارة البلاد اليومية، فكان يتم اختيارها فى البداية من ضمن أعضاء مجلس الميدان من خلال الانتخاب المباشر، لكنه تبين بعد ذلك أن هذا الإجراء يؤدى لتفشى الفساد المرتبط بعمليات البلطجة وشراء الأصوات، فتم تبديله فيما بعد بمبدأ الاختيار عن طريق التصويت بنظام القرعة العشوائية، مع التأكد ألا يخدم أحداً فى الحكومة لفترات متتالية. وهذا المبدأ يطبق أيضا فى حالة السلطة القضائية، حيث يتم اختيار المحكمين القضائيين عن طريق القرعة أيضا- وهو النظام القضائى المشابه لما هو قائم فى الولاياتالمتحدة وبريطانيا إلى حد ما. هكذا تماشت الديمقراطية مع مبدأ العدالة المطلقة، الذى أقر تكافؤ الفرص فى أحقية الحكم. وربما ليس من المصادفة أن بدايات تلك التجربة الفريدة تبلورت بعد ثورة «سولون»، التى جاءت للإطاحة بال«أوليجاركية»، أى ظاهرة «تحالف رأس المال والسلطة». بالطبع لا أتكلم هنا عن اليونان الحديثة، العضو فى الاتحاد الأوروبى، إنما عن ديمقراطية الإغريق، التى تمركزت حول مدينة أثينا منذ نحو 2500 سنة! لكن إذا كان الواقع هو أننا فى مصر اليوم نرفض الأخذ بمبادئ الديمقراطية الحديثة ولا نهتم بتكوين أحزاب قوية وإقامة حملات انتخابية جادة، ويصر البعض فى المقابل على إدارة عملية التحول نحو الديمقراطية من خلال ميدان التحرير، ويصر البعض الآخر على التمسك بعادات وتقاليد سياسية ونظم حكم تاريخية، فربما فعلاً فى هذا الحال من الممكن والمفيد أن نتعلم من النموذج اليونانى القديم. كذلك، هناك مخاوف من أن تؤدى الديمقراطية فى مجتمع فقير، تتفشى فيه الأمية، إلى الفوضى والفشل (رغم أن النموذج الهندى ينفى حتمية هذا القدر). لذلك أقترح أن نفعل مثلما فعل أهل أثينا من قبل، ونلغى حق فئات معينة من المشاركة السياسية، حيث إن الأثينيين القدماء قد ألغوا حق عضوية «مجلس أجورا» فى حالة العبيد والنساء والأميين، ومن ليس له والدان أثينيان خالصان، وأيضا معظم المنتمين للطبقات الدنيا. وألغوا كذلك فعليا حقوق السكان المقيمين بمنطقة أتيكا النائية المحيطة بأثينا، نظرا لعدم تمكن هؤلاء عادة من التواجد فى المدينة لحضور المجلس وممارسة حقوقهم السياسية.. وليس لدى الكثير من الشك أنه يمكن تفعيل نظام مماثل تماماً وملائم ل«خصوصيات» مجتمعنا المصرى، خاصة أن لدينا أيضا من يُعامل معاملة العبيد، لكننا لا نسميهم كذلك.. أخيراً هناك مشكلة صغيرة: فى الحالة الأثينية كانت ساحة أجورا تتسع لكل أعضاء المجلس بعد عملية الإقصاء المذكورة، أما ميدان التحرير فلا يمكن أن يستوعب كل المصريين، حتى بعد إتمام عملية إقصاء مماثلة.. لكن الحل سهل ويمكن تفعيله عن طريق قرعة أولية ل«مجلس التحرير»، تتم كل أربع سنوات مثلا. لا أدعى الخبرة بالعملية السياسية، لكنى أعرف أن فى الدول الديمقراطية ذات المجتمعات المؤهلة سياسياً، يكون الجو مشحونا قبل الموعد المعلن للانتخابات بشهور عديدة بالحملات والبرامج والدعاية الانتخابية. وإذا أتيحت الفرصة الزمنية، وهى متاحة لنا حالياً فى مصر، لا نجد أثراً تقريبا لمثل هذه الحملات، مما يثير الشك فى أننا نأخذ هذه المسألة جديا أو أننا عندنا نوعية الساسة المؤهلين لها. ومع تفشى الفساد وغياب أطروحات واضحة ودقيقة ومتميزة لإعادة صياغة نمط نظام الحكم فى البلاد، فربما نمط «ديمقراطية الميدان»، الممزوج بنظام القرعة، هو فعلا الأنسب لنا! على كل حال فهو لاشك أقل ضرراً من حكم الفرد «الملهم»، الذى يبدو أن الكثير ينتظره لكى يلقوا تجاهه مسؤولية عملية الانتقال.. بالفعل فإن فكرة الدولة المدنية الديمقراطية نشأت فى المدينة اليونانية القديمة عن طريق مجلس الميدان، كما يوحى اشتقاق كلمة «مدنية» نفسها. [email protected]