بالصدفة، أعيد هذه الأيام قراءة «قصة مدينتين». رواية تشارلس ديكنز الشهيرة عن الثورة الفرنسية. ربما لم يكن الأمر صدفة وإنما شىء دفعنى لأن أبحث عنها. الثورة المصرية، الثورة الفرنسية: تجمع بينهما أشياء كثيرة، وتباعد بينهما أشياء أكثر. تجمعهما أسباب اندلاع الثورة. المظالم هنا والمظالم هناك. أمن الدولة هنا والباستيل هناك. الأثرياء هنا والنبلاء هناك. الفقراء هنا والبؤساء هناك. يجمعهما أيضا أن الثورتين ألهمتا العالم كله بالحرية والعدالة والمساواة. الفطرة الإنسانية التى فطر الله الناس عليها، تهفو إلى الحق والخير والكمال. ■ ■ ■ أما ما يباعد بين الثورتين فيصب فى صالح مصر بحمد الله. مصر الوداعة والمسالمة والسماح. مصر التى بناها حلوانى وزيّنها فنان. الرحمة الكامنة فى قلوب المصريين حمتنا من العنف والغضب والشدة التى اتسمت بها الثورة الفرنسية. التفاصيل مُرعبة برغم أن القصة تدور تحت خلفية من قصة حب ناعمة كلها إيثار ووفاء. قبل الثورة كان النبلاء يعاملون العامة معاملة الكلاب. يغتصبون الفلاحات ويقتلون من يحاول الدفاع عن عرضه بلامبالاة. أرجوك لا تستغرب، فقد أثبتت لنا أحوال البشر أنهم يتحولون إلى وحوش إذا أطلقوا لغرائزهم العنان. كان لابد بعدها أن يحدث الانفجار. حينما اندلعت الثورة لم يعد للحكومة المركزية سلطان. استولت الفوضى على الأراضى الفرنسية، وفى كل قرية أقام حفنة من الغوغاء لجنة تعتبر نفسها السلطة العليا، فتحاكم من تشاء وتدين من تشاء. الهول والويل، والفوضى العارمة، وأخذ الأبرياء بالشبهة، والتراشق بألفاظ نابية تخالطها الرطانة الجديدة من عبارات الإخاء والعدالة والمساواة، ينطقونها فى غباء، ويفهمونها فى تعصب، ويطبقونها تطبيقا يُفرغها من معانيها، بل ويقلب مغزاها رأسا على عقب. نحن محظوظون لأن مصرنا الرحيمة لم تتورط فيما تورطت فيه الثورة الفرنسية من عنف ودماء. الغوغاء من الوطنيين يشحذون خناجرهم كل ليلة ليقوموا بهجمات ليلية على المقبوض عليهم لمجرد الشبهة، فيذبحوهم ذبحا ثم يعودوا لسنّ أسلحتهم من جديد. يهاجمون بيوت المتهمين بالرجعية ليذبحوهم وهم يغنون ويرقصون. والضحايا المساكين بعد ذبحهم تقطع الجماهير أوصالهم، والناجون من المذابح يحيون لياليهم بالابتهاج الجنونى لنجاتهم المؤقتة، ثم يلاقون مصيرهم المحتوم فى الصباح التالى. ■ ■ ■ الوحش فى الإنسان، حين يُطلق العنان للغرائز السفلية، المحاكم الثورية مكونة من خمسة قضاة وعدد من المحلفين الرعاع. يفرضون رأيهم على القضاة، فأصبح الآثمون هم الذين يحاكمون الشرفاء، والحثالة يتحكمون فى مصير أهل الثقافة والتهذيب. وهناك الجمهور الذى جعل نفسه محكمة فوق المحكمة. الرجال مدججون بالسلاح، والنساء مسلحات بالخناجر والسكاكين المسنونة، وقد أحضر بعضهن أوعية الطعام لتتسلى الأسرة وهم يتفرجون على المحاكمات. ■ ■ ■ «قصة مدينتين» هى قصة الثورة حين تنحرف عن مسار الإصلاح، وغرائز الانتقام حين يُطلق لها العنان. هى الدرس الذى ينبغى أن نتعلمه حتى لا تتكرر فى مصرنا الحبيبة «قصة مدينتين». [email protected]