تقريباً الجميع فى حالة حرب، حتى تكاد لا توجد دولة عربية غير منخرطة أو داعمة فى أحد النزاعات المسلحة المشتعلة فى منطقة الشرق الأوسط. فالحياد موقف صعب، فى وقت تنهار فيه دول، وتقوم أنظمة بفعل داخلى أو بدعم خارجى، وتداعيات السقوط تهدد بسقوط المزيد من حجر الدومينو. ولأننا، فى وسط تبدلات سياسية وحربية سريعة، فالمؤرخون هم أقدر على قراءة ما يحدث، لأنهم يطالعون التطورات فى إطارين: زمنى طويل، وجغرافى واسع. حاليا تدور فى المنطقة حروب هى الأكبر فى تاريخها، وماكينة القتال لا تهدأ. أربع حروب واسعة، تقاتل فيها تكتلات عسكرية دولية، إضافة إلى جيوب اضطراب ومواجهات داخلية مع قوى إرهابية أو معارضة فى نحو عشر دول عربية. لكن هذا البركان النشط الذى يقذف حمما، منذ ثلاثة عقود، ربما بلغ ذروة انفجاراته فى سورياوالعراق وليبيا واليمن، وما جاورها من دول منخرطة فى الصراع أيضا، وقد تتسع ساحة النزاعات. ولن يتوقف العنف عن تغيير خريطة المنطقة إلا إذا وافقت القوى الإقليمية والدولية على حلول سياسية، بذلك تتوقف الاشتباكات فى سوريا واليمن وليبيا، على الأقل تتفق على محاصرتها حتى لا تتجاوز الحدود، كما نجحت فى الماضى. أما إذا فشلت مؤتمرات الحل السياسى فى سويسرا والنمسا ونيويورك، فإن احتمالات التغيير على الخارطة مفتوحة، وستكمل انهيارات ربيع عام 2011 طريقها، فتجرف المزيد. فمن المستفيد، ومن الخاسر فى حروب الإقليم الحالية؟ العام ينتهى، وفى المنطقة أربع حروب كبرى، وفيها أربعة تحالفات عسكرية دولية نشطة قتالياً، ومواجهات داخلية فى عدد من الدول العربية بدرجات مختلفة. وتقريبا كل دول المنطقة منخرطة بدرجة ما فى الصراع الإقليمى. والجديد فى هذا العام المنصرم، دخول روسيا، وعودة أمريكا، وصدام إيرانى تركى، وإن كانت تدار بالوكالة فى سورياوالعراق. كما لا ننسى أن مجلس التعاون الخليجى يدخل أول حرب له دون حليفته التقليدية- الولاياتالمتحدة. وبعودة روسياوأمريكا إلى الانخراط فى حروب المنطقة، ستتمزق المنطقة إلى معسكرات. فالولاياتالمتحدة تقود تحالفا عسكريا فى العراق، شكلته قبل عام ونصف العام لمحاربة تنظيم داعش، مكونا من عشر دول، بينها الأردن والمغرب، وقد مُنعت السعودية من المشاركة فيه بعد اعتراض إيرانى عراقى. وعلى هامشه شكلت واشنطن أيضا تحالفا مكملا من 59 دولة لدعم حربها فى العراق، باستراتيجية متعددة النشاطات: استخباراتية واقتصادية وتقنية. كما شكلت الولاياتالمتحدة تحالفا عسكريا ثانيا فى سوريا، فيه 13 دولة، تشارك فيه السعودية بقوة من أربع طائرات مقاتلة من نوع F-15، ومثلها الامارات بأربع F16، وقطر بمقاتلتين ميراج 2000، لكن الأخبار الأخيرة تقول إن هذه الدول الثلاث تقريبا جمدت نشاطها العسكرى فوق سوريا، بعد دخول الروس، وبسبب الاختلاف مع واشنطن على سياسة استهداف الجماعات الإرهابية وترك نظام الأسد يتمدد على الأرض مجانا، على حساب التحالف. ويضم التحالف الأمريكى أيضاً قوات جوية بحرينية وأردنية ومغربية وتركية. ولروسيا تحالفها فى سوريا، 4+1. والواحد بعد الزائد المعنى به حزب الله الذى زج بآلاف من مقاتليه يدافعون عن نظام الأسد مبكرا، إلى جانب روسياوالعراق وقوات النظام السورى. وهناك تحالف عسكرى رابع، تقوده المملكة العربية السعودية، مكون من 11 دولة، كلها عربية باستثناء السنغال، إلى جانب مشاركة عدد من الدول التى لم تلتزم رسميا بالدخول فى الحلف مثل مصر. أما فى حرب ليبيا، فإن حلف الناتو هو من تولى إدارة شؤون الحرب خلال الثورة على نظام القذافى، لكنه توقف بعد سبعة أشهر، برغبة من إدارة باراك أوباما التى قررت الانسحاب، واكتفت ببعض العمليات العقابية لاحقا، بعد مقتل سفيرها من قبل تنظيم القاعدة. وعلى امتداد هذه المنطقة الواسعة المشتعلة تنتشر الجيوش والميليشيات فى حروب متعددة ومتزامنة. وبسبب سياسة الرئيس أوباما قررت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وبقية دول التحالف- القتال معا، ولأول مرة بشن حرب شاملة، جويا وبحريا وبريا، وذلك من أجل إعادة الوضع فى اليمن إلى الواقع الذى كان عليه. تقاتل إيران المنخرطة فى حرب اليمن بالوكالة، فهى من هيأت جماعة الحوثى اليمنية المسلحة، وموطنها الجغرافى محافظة صعدة، المحاذى للسعودية، وبذلك تكون إيران قد فتحت جبهة عسكرية باشرت قصف القرى السعودية الحدودية. وكانت أول مهمة لقوات السلاح الجوى السعودى فى مطلع الحرب قصف الترسانة اليمنية لأنها تضم صواريخ «سكود سى» وكذلك «دى»، الروسية، ومداها ألف كيلومتر، أى أنها قادرة على الوصول إلى جدة- السعودية، ويُعتقد أنها تمكن من تدميرها. إيران نشطة جدا، مستفيدة من إطلاق يديها بعد توقيعها الاتفاق النووى مع الغرب. وهذه أول مرة فى تاريخها الحديث تخوض ثلاثة حروب خارج حدودها. فهى الداعم الأول للمتمردين الحوثيين وقوات الرئيس المعزول على صالح فى اليمن، وتقود جيشا يقدر بأكثر من سبعين ألف مقاتل فى سوريا من قوات وميليشيات متعددة الجنسيات، عراقية ولبنانية وأفغانية ومن جمهوريات وسط آسيا، تحارب فى سبيل حماية نظام بشار الأسد من الانهيار، وإعادة فرض سيطرته على أنحاء سوريا، التى فقد منها نحو ثلثى مساحة البلاد. ولإيران قوات عسكرية تقاتل فى العراق، وهى التى أسست ما سمى بالحشد الشعبى بمنهج طائفى، بحجة أن الجيش الحكومى العراقى ضعيف. وقد قامت طهران بتجهيزه وتدريبه، ويشارك فى معظم الحروب ضد «داعش»، باستثناء محافظة الأنبار المحاذية للأردن والسعودية، حيث إن الأمريكيين عادوا إلى هناك يقودون المعركة مع القوات العراقية، وتجمع من العشائر السنية. وقد كنا نعتقد أن روسيا التى ودعت المنطقة، منذ السبعينيات، لن تعود لكن يبدو أن حماس الرئيس الحالى فلاديمير بوتين يقوم على استراتيجية تتضح أكثر مع مرور الوقت، روسيا ستعود كقوة عسكرية دولية موازية للولايات المتحدة وحلف الناتو. ورغم وعد الرئيس باراك أوباما بأنه لن يسمح لبلاده بالتورط فى حروب المنطقة، فالأمريكيون عادوا إلى العراق بقوات برية وجوية، وإن لم تكن كبيرة. ودخلت سماء الحرب فوق سوريا، ضمن تحالف خاص بها لمحاربة التنظيمات الإرهابية. وسوريا هى أكثر حروب المنطقة تعقيدا، فإضافة إلى الأمريكيين والروس والإيرانيين، هناك تكتل خليجى تركى منخرط منذ أربع سنوات فى دعم الانتفاضة السورية ضد محور الأسد- ايران. ومن سورياوالعراق شمالاً إلى اليمن جنوباً، فالحرب تمتد إلى ليبيا غربا، التى شهدت العام الماضى انتكاسات وسّعت دائرة القتال. أحداث خطيرة، متعددة ومترابطة، فى مشهد لم تعرف له المنطقة مثيلا منذ مائة عام تقريبا، ويصادف العام المقبل مرور مائة عام على توقيع اتفاقية الدبلوماسيين البريطانى والفرنسى، سايكس بيكو، واللذين تقاسما بينهما تركة الدولة العثمانية المنهارة، وتحديدا منطقة الهلال الخصيب. الروس كانوا المتآمر الثالث فى الاتفاق، لكنهم لم يحصلوا على شىء، نتيجة سقوط حكم القيصر، واستيلاء الشيوعيين. ومن المصادفة أن «اتفاق سايكس بيكو» يمر عليه مائة عليه سنة، فى العام الجديد 2016. وقد تردد الحديث عنه كثيرا منذ عام 2003، عشية احتلال القوات الأمريكية للعراق، واستحضره المحللون متنبئين بأن القوى الكبرى هى من ستحسم شكل المنطقة أخيرا. من المؤكد أن وزن الدول الكبرى سيرجح أى كفة تفوز أو صبغة حل سياسى ستفرض لاحقا فى المناطق المضطربة، لكن من الصعب على أى قوة إقليمية أو دولية أن ترسم وحدها خريطة لمنطقة الشرق الأوسط. وربما يكون تدخل القوتين «الأمريكية- والروسية» مفيدا فى الأخير، فى حال اتفقتا على احتواء الصراعات، أو خطيرا على استقرار المنطقة والعالم فى حال قررتا المواجهة وبدء حرب باردة جديدة.