إلى أين يسير قطار ثورة مصر؟ أختلط الحابل بالنابل وساد الهرج والمرج في أرجاء المحروسة، خرجنا من حقبة سلطوية دكتاتورية حمقاء، إلى رحاب الحرية، فهل نحن أهلاً لها؟ السواد الأعظم من الشعب المصري لا يفقه شيئاً عن السياسة فقسم منه ليس بالقليل أُمّي -لا يعرف القراءة و الكتابة- و هؤلاء لا يستوون فمنهم من ترك دراسته تحت ضغط المصروفات التي ليست في وسع الجميع –فالتعليم في مصر ليس مجانياً كما يزعمون- و قسم منهم ترك الدراسة لأنه لا يحب أن يتعلم و هو عدد ضئيل جدا، و على أي الأحوال فالقسمان يشتركان في أنهم ضحايا للتغييب المنظم والممنهج للعقل المصري طوال عقود مضت، وكذلك للحرب التي أعلنتها الأنظمة السياسية المتعاقبة على مصر (حرب لقمة العيش) التي تفننوا في حبك خيوطها لتصبح حبلاً يلتف على الرقاب، فمن يرتاد المدارس والمعاهد والكليات أشد خطراً من العدو المتربص على حدودنا الشرقية ولأن المعدة الخاوية تشغل العقل كثيراً فكان المنهج هو التجويع حتى ينشغل الجميع في لقمة العيش و لا يرى ما يحاك حوله من مؤامرات. أما النخبة في مصر فلقد حاولوا كثيراً مجابهة الطغيان، ولكنهم للأسف كانوا شتاتاً لا يجتمعون على كلمة سواء، ملأوا الدنيا بكلماتهم البراقة والتي كان يقابلها العامة بفم مفتوح من الدهشة فالعامة – وهم السواد الأعظم من هذا الشعب المفترى عليه - لا يريدون كلمات رنانة ولا تصريحات حالمة، فأنشق عن هؤلاء وأبتعد عنهم كثيراً و أنكب على شغفه في تحصيل (لقمة العيش) وكان الحاكم و حاشيته يعون هذا جيدا و كانوا يسمحون للنخبة بالحديث كثيراً و لا مانع من التهييج للرأي العام قليلاً, حتى يظهر النظام بعد مجابهتهم أنه المخلص للشعب و أنه يريد الاستقرار لهم, فابتعدت الجماهير عن كل شيء وحاربوا كل ما يجهلونه ودب الخلاف حتى في أوساطهم و أصبح شعب مصر العظيم شراذم لا يتفقون على شيء أبداً. لكن ماذا حدث إذا يوم الخامس والعشرين من يناير؟ كنت أرى المشهد قبل الثورة جيداً و كنت أرى أن الوضع السياسي و الاقتصادي و الأخلاقي وأيضاً روح الوطنية في تردٍ شديد وكان وضعاً لا يحتمل إصلاحاً مع وجود هذه المنظومة التي تكونت بفعل فاعل، و كان ردي على سائليّ " لا بد من ثورة شاملة" و كنت أعني الكلمة بكل حذافيرها. بدأت الخيوط الرفيعة تتجمع على مدار عشر سنوات تقريباً، خيط من هنا و خيط من هناك، حتى تجمع حبلاً شديداً يستطيع الضعفاء المقهورين التمسك به ظهرت على الساحة شريحة جديدة من المجتمع لا تنتمي للشرائح الكلاسيكية الموجودة بالفعل على الساحة السياسية, فهم لا ينتمون للأغلبية الصامتة المقهورة الجائعة و لا هي تنتمي للنخبة المفوهة الباهتة الملامح بفعل تبعيتها و لو جزئياً للنظام هذه الشريحة كانت –بفعل النظام أيضاً- ممن غيبوا و لكنهم رفضوا الاستسلام و بدأوا التخلص من كل القيود التي فرضت عليهم, و بدأ قيد الخوف الذي رسخته الأنظمة منذ عقود في النفوس أن ينكسر, و كان هذا هو المحفز الأساسي للثورة, فلم يكن الجوع هو المحرك و لكنه الشعور بالتحرر من هذا القيد, و لأن هذه الشريحة الجديدة كانت تنظر من خارج النافذة فهي كانت ترى الصورة بعين مختلفة, قيم أٌعيدت إلى النفوس بطريقة حضارية أعادت هذا الشعب لتوازنه ولنقطة التصالح مع الموروث الحضاري فكانت الثورة التي أذهلت العالم. كان موطن القوة في هذه الثورة هو أنها كانت على عكس الثورات التي مرت بها الشعوب في التاريخ المكتوب, كانت هذه الثورة بلا قائد, فالمعتاد أن يكون للثورة قائد يحرك و يلهم الجماهير و يكون متحدثاً باسمها. هذه الثورة لم يكن لها ملهم إلا تلك الروح التي تولدت داخل الجمع التي كسرت كل القيود في لحظة, و لغرابة الأمر فهذه الثورة لم يفهما أحد للآن, و لم يصدقها حتى صانعوها ففي أول الأمر لمن يدر بخلد من خرجوا أن تتطور الأمور هكذا فالمحرك كان خفياً عن الجميع حتى عنهم, إرادة أقوى من كل المفاهيم والأعراف والتقاليد التي تحكم الثورات فالوقت قد حان وجاء الإذن من السماء وكانت لحظة الأنطلاق التي حددها الخالق، فتوافقت الجموع مع مراد الله و قدره, فهبوا هبة رجل واحد, انظر لثباتهم و إصرارهم و تمسكهم, حتى هم لم يدركوا المعنى والسبب الذي يحركهم، ثم انظر لتسلسل الأحداث بعد ذلك, و كيف أن الجيش تمسك بجيناته الحضارية مرغماً و ناصر الحق, فالحق جلياً لا يحتمل أن يتخلى عنه خير أجناد الأرض, كانت لحظة تاريخية أذهلت كل من عاين المشهد, و لكنهم لا يدرون أن الله أراد, فلقد وعد بالتغيير إذا نحن أردناه لأنفسنا, و كنا عند الموعد و كان الله من فوق المشهد يرعاه, فالحمد و المنّة لله. و لكن ماذا حدث الآن؟ استمر عبّاد الطاغوت –كعهدهم- على غيهم, و لهم في قريش أسوة في ذلك, رفضوا أن تعود الأمور لنصابها – لأن في ذلك تهديد لمصالحهم- و هم قد تعودوا أن يسترزقوا من آلام الناس و حريتهم بل و من هتك اعراضهم, فكيف لك أن تتخيل أنهم سيستسلمون بهذه السهولة, مسيرة الثورة تحتاج ليدٍ من حديد تضرب على يد هؤلاء الذين يريدون أن يعيدوا عقارب الساعة للوراء, من يوم الأربعاء المشؤوم (يوم الجمال و البغال) إلى يوم (معركة استاد القاهرة) و هم يحاولون و لكن يد الله أقوى و إرادته ستنتصر, و ما يحدث الآن بداية لنهاية عصر عبادة الطواغيت و بداية عصر الحرية و عبادة الله وحده, و ما كان المطر الذي انهمر من سماء القاهرة بالأمس إلا بشرى لمن يعي و و الله إني لأستبشر خيراً بهذا المطر الذي نزل ليغسل عار هؤلاء و لتبقى الساحة نظيفة للبناء و التعمير, و لكنها مهلة لتمحيص القلوب و لنرى من يثبت على الحق و من يرتد عنه. 4-4-2011