ربما ستتيح الظروف فى الفترة المقبلة أن يختار الشعب المصرى ليس فقط مَن يحكمه إنما أيضا طريقة الحكم.. الكل تقريبا يحترم فكرة الديمقراطية، ومع ذلك فإن هناك اختلافاً فى مفهوم تلك الكلمة، فالديمقراطية ربما تعنى تطبيق الإرادة العامة، أى فرض ما هو سائد بالفعل لأنه مقبول من قبل الأغلبية، لكن فى غياب فكرة التعددية الفكرية، فالديمقراطية لا تعنى بالضرورة الحرية، لأنها لا تصون حقوق من له اتجاهات مختلفة عن الاتجاه العام، ولا تصون فى هذا السياق حقوق الأقلية. فالأنظمة السياسية الشمولية لا تتعارض بالضرورة مع فكرة الديمقراطية، ولذلك أطلقت بعض الدول الشمولية (مثل ألمانياالشرقية السابقة) لقب الدولة الديمقراطية على نفسها. فالفرق الأساسى بين المجمتع الشمولى والآخر التعددى، هو أن الأول - كما يوحى الاسم - يسمح لفكرة واحدة بأن تشمل وتطغى، فتسيطر على الخطاب العام ولا يسمح لأى أفكار أخرى أن تنافسها. أما المجتمع التعددى فيسمح بتعايش أكثر من وجهة نظر ونمط حياة، ويرتبط بناؤه بمبدأ احترام حرية وكرامة الفرد، وصيانة حقه فى الاستقلال من حيث الرأى والتصرف، أى أنه يتيح لكل فرد حرية الاختيار وتبنى الآراء وأيضا أنماط الحياة التى يراها مناسبة لنفسه، حتى إذا اختلف ذلك عما تعتنقه الأغلبية من معتقدات وأخلاقيات، فى ظل سيادة قانون يحمى كل طرف من اعتداء الآخر على حريته. والمجتمع التعددى يقبل ويحتاج سيادة النقد العقلانى للأفكار المطروحة، أى عملية تعايش وجهات نظر مختلفة جذريا فى طبيعتها، تتنافس بحرية فى سياق منفتح، يسوده الجدل المبنى على المنطق والأدلة.. مما يؤدى - كما لاحظ فيلسوف العلم كارل بوبر - لعملية تطور فكرى تنعكس على واقع المجتمع فتدفع عجلة تقدمه.. يحدث ذلك إلى حد كبير بالطريقة نفسها التى تتطور من خلالها الكائنات الحية فى مجال علم الأحياء، أى أنه يخضع لمبدأ «البقاء للأصلح»، حيث تؤدى منافسة الأفكار المطروحة فى المجال العام إلى عملية تفنيد لها، فيرفض منها ما هو ليس صالحا للتطبيق، وتسود وتتطور الأفكار التى تثبت جدارتها فى شرح الأحداث وتنظيم المجتمع. هذه هى الطريقة نفسها التى تتطور من خلالها النظريات العلمية، حيث يتم تحديد ذلك، ليس فى الأساس عن طريق صراع غرائزى، كما هو الحال فى حالة الكائنات الحية المتصارعة فى الغابات، إنما عن طريق النقد العقلانى: عن طريق المنطق والحجة والأدلة. هكذا تتطور نظرتنا العلمية للعالم. وكذلك يتطور المجتمع السياسى التعددى المنفتح.. يتطور عن طريق مبدأ حرية طرح الأفكار، والمساحة المتاحة للاختلاف، وتقنيات النقد العقلانى لتلك الأفكار، والذى يؤدى لتطوير وتحسين حجة كل طرف، وأيضا إلى رفض وجهات النظر التى لا تحتمل النقد والرد، فتفقد قدراتها على إقناع الناس عقلانيا، حتى يختفى تدريجيا تأثيرها على الخطاب العام.. المهم هنا أن الأطروحات لا يتم رفضها من البداية لمجرد كونها تعبيرا عن رأى أقلية فى المجتمع - أى فقط لأنها مختلفة - وإنما يتم رفضها من الأغلبية بعد مناقشة عقلانية جادة ومطولة. المجتمع المصرى المعاصر يفتقد، إلى حد كبير، بعد عقود طويلة من الكبت الفكرى، عملية بلورة ونقد تلك الأفكار، من خلال حوار عام جاد وحر، فرغم وجود مساحة هائلة من حرية التعبير منذ حين، فإن أساس ومرجعية النقاش العام تعلقت فى مجملها بنقد نظام الحكم الديكتاتورى من خلال الجدل الذى نشأ بين مؤيدى ومعارضى ذلك النظام. أما الكلام عن أسس الديمقراطية التعددية والنقاش المتعلق بنوع المجتمع الذى نتطلع إليه فلم يأخذ القدر نفسه من الأهمية، وقد سيطرت على بعض جوانبه نبرة لا عقلانية، استخدمت أحيانا العقيدة والمشاعر الدينية والنبرات ال«شعبوية» لإشاعة منهجها. يجب ألا يسود ذلك الوضع فى المرحلة الحالية التى يتطلع فيها الإنسان المصرى لتقرير مصيره السياسى وتحديد الهوية المستقبلية للمجتمع الذى يتطلع للعيش فيه.. يبدو أن هذا هو التحدى الأكبر الذى سيواجه المجتمع المصرى فى المرحلة المقبلة. وهذا التحدى يتطلب تعريف ما طبيعة الأفكار التى سيتم أخذها جديا فى سياق مجتمع تعددى منفتح وحر، وما الأفكار التى يجب تجاهلها. فى سياق ما سردناه، من الواضح أن الأفكار المقبولة يجب أن تكون قابلة للنقد العقلانى المستخدم للحجة والمنطق والأدلة، وألا تكون مبنية على أساس عقائدى بحت، أى أنه لا يمكن مثلا قبول عملية دمج المعتقدات الدينية الصريحة بالسياسة. هذا لا يحتم بالضرورة منع كل التيارات السياسية ذات المرجعية الدينية، لكنه يعنى أن مرجعيتها يجب ألا تدخل صراحة فى المجال العام، وربما هذا هو أنسب تأويل لمادة الإعلان الدستورى الأخير المتعقلة بهذا الشأن.. لأن من يعتقد أنه يمتلك الحقيقة من منظور عقائدى لا يتقبل فكرة النقاش العقلانى، ولا مبدأ التعددية الفكرية، وبالتالى يرفض الحرية حتى إذا تشبث سطحيا بفكرة الديمقراطية، وحتى إذا أشار بشعارات تبدو جذابة منذ الوهلة الأولى.. فأساسها غير قابل للتغيير، حتى فى حالة رفضها من قِبل الأغلبية على المدى الطويل، فإنها تفتح الطريق نحو الاستبداد. [email protected]