«معنى احتلال العراق وإسقاط صدام حسين هو أن الاستبداد والتسلط يمكن أن يكونا المدخل للاحتلال الأجنبى والتدخل العسكرى، فالحرية والديمقراطية فى عصرنا باتت تساوى الوطنية والاستقلال». كان ذلك جزءاً من مداخلة ألقيتها فى محاضرة عامة بمكتبة الإسكندرية فى يناير 2004، والحق أننى كنت أعنى بهذه الكلمة وقتها النظام المصرى والرئيس مبارك شخصياً، ولم يخطر فى بالى أحد غيره، وصحيح أن كلمتى وصلت إلى من أردت وكان الرد توجيه اللوم العنيف إلى من «استضافنى» فى هذه الندوة و«سمح» لى بالحديث، والحمد لله أن ما جرى فى العراق لم يجر علينا، فقد تدخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى الوقت المناسب وحسم الأمر، ولم يكابر الرئيس السابق طويلاً. لكن تجربة العراق تتكرر أمامنا، مرة أخرى، وعلى حدودنا المباشرة فى ليبيا.. الطائرات الفرنسية تقصف طرابلس، وصواريخ كروز الأمريكية تنطلق من البحر المتوسط تجاه ليبيا، والشعب الليبى بين الشرين والقصفين، قصف طائرات القذافى وقصف طائرات ساركوزى، وبينما تتجه طائرات ساركوزى إلى مواقع عسكرية موالية للقذافى، اتجهت طائرات القذافى إلى المدنيين والأحياء السكنية فى المدن الليبية. رحم الله الملك محمد إدريس السنوسى، الرجل الذى لم يطلق أو يأمر بإطلاق رصاصة واحدة تجاه مواطن ليبى، حتى لو كان من الضباط الذين ثاروا عليه فى سبتمبر 1969 وكان من بينهم معمر القذافى نفسه. منذ عقدين تحدث عدد من علماء الاجتماع العرب عن «الاستعمار الداخلى» أو «الاستعمار المحلى»، وكان ذلك بمناسبة غزو صدام حسين للكويت فى أغسطس سنة 1990، ولم يتم التعامل بجدية كافية مع هذا الطرح، ويجب القول إن معظم الدول العربية، ولو قلت إنها كلها تعرضت لهذا اللون من الاستعمار فلا أعد مبالغاً، تأمل ما جرى فى السودان وما يجرى فى ليبيا والقوس مازال مفتوحا.. هناك استعمار محلى فى كل بلد عربى، يتمثل فى طغمة الفساد والاستبداد.. فى كل بلد سوف تجد أسرة من أب هو الرئيس وابن هو الوريث والسياسى وأبناء آخرين يتلاعبون بالثروة، أما الشعوب فهى «جرذان» كما قال القذافى وغيره يعنيها دون أن يقولها. القضية الآن تعنى الشعوب، كل شعب مطالب بدفع ثمن الحرية أو فاتورة الاستقلال، فى القرن العشرين دفعت هذه الشعوب ثمن الاستقلال والتحرر من الاستعمار الأجنبى، وعاشت هذه الشعوب بسعادة وفخر أنها طردت المحتل الأجنبى، لكنها لم تدرك أن هناك محتلاً محلياً يتربص بها، وفى حالة المحتل الأجنبى كان الحق بيناً والباطل بيناً أيضاً، لكن مع المحتل والمستعمر المحلى اختلطت الأمور وتداخلت أو تشابكت، الآن يعلن القذافى أنه يتعرض لعدوان صليبى وأنه سوف يسلح الشعب الليبى، وكأن الشعب الليبى هو المقصود والمستهدف من الغارات الفرنسية، وهو حين يستعمل مصطلح «صليبى» يود استنهاض العرب والمسلمين جميعاً معه، هو.. هو القذافى يمارس الخلط والتدليس والابتزاز الذى اعتاد عليه، لم يشأ القذافى أن يكون كريماً ووطنياً فينسحب من الصورة ويترك الشعب الليبى يقرر ويختار. تصرف القذافى كمستعمر ومحتل منذ اللحظة الأولى للأزمة، بدءاً من الاستعانة بالمرتزقة الأفارقة، وطلب المساعدات العسكرية من الآخرين، خاصة من مصر، التى رفضت طلبه، ولذا فإن مقاومته والتصدى له «واجب وطنى» ومعاونة الشعب الليبى عليه واجب وطنى أيضاً. أقام القذافى دولة الفرد فقط، ولو أن هناك فى ليبيا مؤسسة عسكرية على غرار مصر وتركيا وغيرهما، لتدخلت هذه المؤسسة وحسمت الأمر، لكن القذافى حكم ليبيا بشخصه وبأفراد أسرته.. ويبدو أن الأزمة هناك ستطول، بعد أن أعلنت مصادر أمريكية أن هدفهم ليس إسقاط القذافى.. كما حدث سنة 1991 حين قام صدام حسين بقصف البصرة ومناطق الجنوب العراقى وترك بعدها 12 سنة. التدخل الأجنبى ليس بريئاً ولا خوفاً على الإنسانية المهدرة فى ليبيا، فتش عن المصالح وهى عديدة وكثيرة، لكن المشكلة فيمن يستدعى هذا التدخل ويجعل ظهوره ضرورة وإنقاذاً للمدنيين العزل، وهذا يؤكد ضرورة مقاومة الاستعمار المحلى، أس الاستبداد والتسلط وقرينهما الفساد، وهذا يعنى أن الحرية والتحرر وكذلك العدالة، هى الفريضة الوطنية الأولى التى يجب ألا نهملها ولا نتركها. ورغم ما عانيناه فى مصر وما تعرضنا له فى العقد الأخير خاصة، يجب القول إننا محظوظون بمؤسسة عسكرية قادرة على التدخل السريع والحسم، وأن تكون رقيباً وحكماً، فضلاً عن وعى نخبوى كان قادراً على رصد الفساد والتصدى له فى أحلك الظروف، فنجونا من التدخل الأجنبى، لكن مازال أمامنا وعلينا الكثير.