لا نستطيع التشكيك فى النوايا الحسنة للدكتور أحمد زكى بدر، وزير التربية والتعليم، فيما يخص جولاته المفاجئة على المدارس لمتابعة سير الفضيحة التعليمية. لكن هناك الكثير الذى يجب أن يقال حول هذه الجولات، التى صارت حديث الشارع والإعلام، ودخلت فيها تفاصيل حول شكل الموكب: سيارتا مرسيدس أم أتوبيس مجهز، كما خرج بعض النقاش بشأنها عن حدود القضية إلى تناول الوزير بطريقة شخصية، باعتباره يمارس دور وزير داخلية، امتدادًا لدور أبيه، فى وزارة التعليم. لكن القضية يجب أن ترد إلى أرضها الطبيعية، بوصفها إجراءً لم يخترعه أحمد زكى بدر، لكنه قديم قدم تدهور التعليم وتدهور مرافق الدولة ككل، بدأ مع فرح ضباط يوليو بمناصبهم الجديدة، وصار سنة عند كثير من المحافظين والوزراء، لأسباب بعضها الإخلاص للعمل. ما يخصنا الآن هو زيارات وزير التعليم الذى تسلم فضيحة لا منصبًا، وربما لهذا السبب لم يمسك بالخيط الصحيح للتغيير. مبدئيًا هناك قسوة فى وضع مدرس أو مدير مدرسة فى مواجهة وزيره، والتعريض به إعلاميًا ومعاقبته بعقوبة غليظة، بينما هناك جهات متابعة للوزارة كانت أولى منه بالعقاب، لأنها لم تتابع انضباطه أولاً بأول. ويجب أن نضع فى الاعتبار إمكانية الظلم بالحكم على معلم ملتزم قاده سوء حظه إلى التغيب مصادفة أثناء الزيارة التفتيشية، وربما يكون وراء الغياب كارثة شخصية. والأهم من كل هذا أن نسأل أنفسنا: هل يستطيع هذا المعلم أو مدير المدرسة المنكل به أن يدير عمله بكفاءة بعد ذلك؟ لأن احترام المعلم وتوفيته التبجيلا ليست من الصغير فقط، بل من رؤسائه أيضاً. وقد راعى الوزير مشكورًا كرامة المعلم، فى واقعة المعلمة التى أراد مستوطن سعودى أن يسحقها فى بلدها. هذه الروح هى التى تجعلنا نتوقع أن يراعى الوزير كرامة المعلمين، حتى لا يقفوا أمام تلاميذهم بعد انصرافه مكتوفى الأيدى، مثل جنود المرور الصغار، المذعورين من راكبى السيارات. يبقى بعد الملاحظات الإجرائية أن نسأل عن جدوى هذه الجولات، حتى إذا تغاضينا عن جانب الأذى الشخصى الذى قد يلحق بالبعض فيها. هل تستطيع حقًا بعث الحياة من جديد فى تعليم أسوأ من ميت؟ نعم، أسوأ من ميت، وليس فى الأمر مبالغة، لأن الميت لا يؤذى أحدًا بموته، بينما صار التعليم عندنا عملية تجهيل، تبدو الأمية إلى جوارها أكثر نفعًا، لأنها تحتفظ للناس بسلامة الفطرة. من هذا الباب، أتصور أن حال التعليم ستكون أسوأ إذا نجحت الزيارات المفاجئة للوزير فى إلزام المدرسين ومديرى المدارس بعملهم، لأن هذا معناه تكثيف العمل بمناهج مختطفة تحرض المصريين على بعضهم البعض، وبأداء لا يخلو من الكراهية، لأن المعلم غير راض عن وظيفته، حتى بعد الكادر. وهذه مشكلة سياسة الرواتب فى مصر التى لا يمكن أن يكون هناك إصلاح دون إصلاحها. على أن هذه الجولات لم تكن بلا نتيجة إيجابية، وفائدتها الكبرى أنها جعلت ملف التعليم مطروحًا على المجتمع وعلى الحكومة. ولا نعرف هل يجب أن نفرح أم نحزن لأن وزيرين انتقدا أوضاع التعليم فى مصر خلال شهر واحد، وهما على المصيلحى وعلى الدين هلال، ما الذى يمنع التغيير إذن إذا كانت المشكلة تؤرق الوزراء؟ على الدين هلال كان أكثر تحديدًا فى انتقاده للمناهج المدرسية عندما تحدث مؤخرًا فى ندوة عن اللاعدالة فى إجبار الطالب المسيحى على حفظ «القرآن الكريم» فى كل المواد الدراسية. وللحقيقة، ليست المشكلة فى هذا الإكراه فقط، بل فى احتقار آلاف السنين من الكفاح البشرى عبر التجربة والخطأ، واعتماد «القرآن» كتابًا فى العلوم والحساب والتاريخ. إن كان الأمر كذلك تكفينا الكتاتيب ولا ضرورة للمدارس أو للجامعات! ولو قام الوزير أحمد زكى بدر بجولة مفاجئة على المقررات فلن يعرف كتاب الدين من كتاب القراءة من كتاب النحو من كتاب العلوم من كتاب الرياضيات، حتى ما يدرس منه بالإنجليزية فى المدارس التجريبية، نجد وسط النص الإنجليزى آيات مصورة بطريقة بدائية. وبين الآية والآية فى كل الكتب تجد الجمل الركيكة التى صاغها عصبة أولو قوة. بعض الكتب يحمل أكثر من عشرة أسماء لمؤلفين ومراجعين، لا هدف لهم إلا مكافأة التأليف والحض على كراهية التعليم ومخاصمة الحياة. وأتصور أن إصلاح المناهج الأدبية يمكن أن يتم بقرار واحد جرىء، كبداية لإصلاح التعليم، حيث لا توجد اكتشافات جديدة فى اللغة وعلومها، ويمكن الرجوع فوراً إلى مناهج سنوات ما قبل اختطاف التعليم. وتكون هذه محض بداية يمكن البناء عليها بإصلاح مناهج العلوم الطبيعية أو استيرادها. ومن قبل ومن بعد، إصلاح الوضع المادى للمعلم الذى كان طليعة التنوير، عندما كان راتبه يسمح له بشراء كتاب وارتياد السينما والمسرح.