يعيد تاريخ انتصار الشعوب على طغاتها نفسه . فأحداث ليلة 5 مارس 2011 في مصر كانت إعادة لأحداث 15 يناير 1990 في ألمانياالشرقية ، حينما اقتحم آلاف الألمان المقر الرئيسي لجهاز أمن الدولة الألماني (الشتازي) . و السبب المباشر للاقتحامات كان مماثلاً ، فقد حاول ضباط الشتازي – كما حاول أشباههم في جهاز أمن الدولة في مصر – إحراق و تدمير مئات الآلاف من الملفات و الوثائق التي تدينهم بجرائم الفساد و القمع . و تحرك المواطنون الألمان و المصريون ليمنعونهم من الفرار بجرائمهم ، و الإفلات من العقوبة ، و تدمير جزءاً هاماً – و إن كان مؤلماً – من تاريخ البلدين . و لحسن حظ الشتازي لم يكن اليوتيوب و الفيس بوك موجوداً في 1990 ، و لسوء حظ أمن الدولة كانت بعض جرائمهم تذاع تباعاً على شبكة الإنترنت . فقد صُوّرت المقابر السرية ، و زنازين القرون الوسطى ، و ملفات معتقلين سياسيين أمضوا سنوات خلف القضبان دون تهمةٍ أو إدانةٍ ، و قوائم "متعاونين" في مختلف أوساط المجتمع المصري – ومنهم شخصيات دينية و سياسية و إعلامية معروفة . و تكلم بعض المعتقلين السياسيين بعد صمت طويل و مخيف ، فقال أحدهم: "مكثت 12 سنة معتقلاً في القسم السياسي من ليمان أبو زعبل بدون زيارات...عندما رأيت أولادي لم أعرفهم و لم يعرفوني ...و لكن أسوأ ما حدث لي كان خلال الشهر الذي قضيته في مبنى أمن الدولة ." و لذلك أسباب ، ففي كل مبنى أمن دولة مُقتحَم وجد المواطنون غرف و آلات تعذيب متنوعة . و لسوء حظ أمن الدولة أيضاً أن تجميع الوثائق الممزقة لن يتطلب سنوات – كما حدث مع الشتازي . فقد تقدمت تكنولوجيا أنظمة "استعادة البيانات" كثيرا مقارنةٌ بتسعينيّات القرن الماضي . )advanced computer-assisted data recovery systems( صدم حجم الملفات و محتوياتها الكثير من المصريين ، رغم أن الكثير من المنظمات الحقوقية و المحاكم المصرية وثقت سياسات الاعتقال بلا مبرر – عقلانياً كان أو قانونياً - ، و سياسة الخطف و اختفاء المواطنين ، وأساليب التعذيب الممنهج ، و أوضاع السجون المميتة . إلا أن التغطية الإعلامية لتفاصيل هذه السياسات و نتائجها كانت من الخطوط الحمراء في عهد مبارك البائد ، و لذلك لم يعلم بها الكثير من المصريين . و بعيداً عما يمكن أن يعتبر جرائم ضد الانسانية ، تتكشف تفاصيل أقل دمويةً عن كيفية أدارة مصر من قبل نظام مبارك . فقد كانت الجامعات مثلاً تدارمن قبل ضباط أمن الدولة - مستوى بعضهم الفكري و الثقافي أقل بكثير من المتوسط . و كان هؤلاء يحددون عمداء الجامعات ، و يقرّون ترقيات الأستاذة ، و يأشرون على تعيين المعيدين ، و يأمرون بفصل طلاب ، و يباشرون غير ذلك من تفاصيل الحياة الجامعية المصرية . و لكن الأن تقلصت الخطوط الحمراء ، و صارت " الأهرام " – من بين كل الجرائد - تحدثنا عن "سقوط دولة أمن الدولة"! و لكن على الشعب المصري أن يعرف أن ما يمر به الآ ن قد مر به شعوب كثيرة أخرى من قبل ، انتقلت كلها من قبضة جكام من أمثال مبارك و بن علي و أجهزة أمنهما إلى مرحلة الديمقراطية و الإزدهار . و عليه أن يعلم أن عملية "الديمقرطة" تمر غالباً بأربعة مراحل : مرحلة إزالة الديكتاتورية (أو التطهير) ، و مرحلة الإنتقال للديمقراطية ، و مرحلة تثبيت الديمقراطية ، ثم مرحلة نضوج الديمقراطية . و بسقوط جهاز أمن الدولة – عصا القمع و التخريب الرئيسية في البلاد – تكون مصر قد اقتربت من الانتهاء من المرحلة الأولى – ازالة الديكتاتور و جهاز أمن نظامه الذي كان أقرب لكيان للجريمة المنظمة منه إلى مؤسسة شرطية . و لكن الانتقال إلى المرحلة الثانية سيحتاج الى إصلاح مؤسسي و قانوي ، جذري و مكثف . و يمكن الاستفادة هنا من تجارب الدول الأخرى ، و بخاصة تشيلي و اندونيسيا و جنوب أفريقيا و ألمانياالشرقية و الأرجنتين و اسبانيا و كوريا الجنوبية . فقد كانت عملية الإصلاح الشامل لأجهزة الأمن في هذه الدول هي أهم أسباب نجاح التحول الديمقراطي . فقد استهدفت عملية الإصلاح عدة قطاعات منا الشرطة و الإستخبارات و القضاء و السجون و الإدارة المدنية للمؤسسات الأمنية . و المبدأ الأساسي المُحّرك لعملية الإصلاح هو مبدأ بسيط يتلخص في أن الهدف الرئيسي لأية جهاز أمن مهني هو أمن المواطن ، لا أمن النظام أو أية كيان آخر . و هذا المبدأ البسيط يخالف الواقع في مصر ، حيث التهديد الأساسي و اليومي لأمن المواطن لا يأتي من القاعدة أو موساد و إنما من جهاز أمن الدولة و بعض قطاعات الشرطة الأخرى . و في الدول السابق ذكرها وُضِعَت سياسات واضحة تهدف لجعل هذا المبدأ واقعاً على الأرض . فتم حل الأجهزة المماثلة لأمن الدولة كالشتازي في ألمانياالشرقية و الباكورستاناس في اندونيسيا و المركز القومي للاستخبارات في تشيلي (سي. ان. آي) . و تم إلغاء القوانين سيئة السمعة التي تشرعن جرائم هذه الأجهزة كقانون 1963 لمكافحة الإنقلابات في اندونيسيا . أما الخطوة الثالثة في إصلاح قطاع الأمن فيتعّين فيها مراقبة هذه الأجهزة عن طريق لجان برلمانية منتخبة . ففي اندونيسيا مثلاً بدأت مراقبة الأجهزة الأمنية من خلال البرلمان المنتخب في عهد الرئيس عبد الرحمن وحيد (1999-2001) المتخرج من الأزهر ، و منذ ذلك الحين تُراقب ثلاثة لجان برلمانية ممثلة للشعب الاندونيسي جميع الأجهزة الأمنية الاندونيسية. و في تشيلي أقر مجلس الشيوخ (المماثل لمجلس الشورى في مصر) – أقر انشاء الوكالة القومية للإستخبارات – و هي هيئة مدنية تملك قانوناً التحقيق مع أية جهاز أمني في تشيلي . و حتى الأجهزة الأمنية ذات المهنية العالية – كالإستخبارات الداخلية البريطانية (أم. آي. 5) – يتم مراقبتها و التحقيق معها من قبل لجنة برلمانية مكونة من 9 برلمانيين من مجلس العموم و مجلس اللوردات . و الخطوة الرابعة التي يجب العمل عليها هي التحقيق في الجرائم التي ارتكبها جهاز أمن الدولة في حق المصريين . و ربما تفيدنا هنا تجربة جنوب أفريقيا في اعادة بعض حقوق ضحايا القمع و التعذيب من خلال لجان "الحقيقة و المصالحة" ، وهي لجان شبه قضائية يُدعى إليها ضحايا قمع الدولة أو أهلهم (ان كانوا قد استشهدوا) ، ليدلوا بشهاداتهم علناً ، و يُستدعى كذلك المتهمين بارتكاب جرائم في حقهم ليقولوا ما عندهم ، و ليطلبوا العفو . و بالرغم من كل ما يحدث الآن ، و بالرغم من وجود الكثير من العقبات في مسيرة الشعب المصري نحو الحرية و العدالة والديمقرطية إلا أننا مازالنا على الطريق الصحيح – رغم حملة العنف التي يشنها بقايا النظام السابق بمن فيهم فلول حزبه و جهاز أمنه . و هم يستهدفون بعنفهم الأهداف الحساسة و السهلة كالكنائس و خطوط أنابيب الغاز و غيرها . و لكن تفكيك جهاز أمن الدولة ، و إلغاء قانون الطوارئ ، و إنشاء آلية برلمانية لمراقبة الأجهزة الأمنية في المستقبل ، و تشكيل لجان تقصي الحقائق سيعطي دفعاً و ضماناً لإستمرار مسيرة الإصلاح و الديمقراطية في مصر على طريقها الصحيح . (*) د.عمر عاشورأستاذ محاضر في العلوم السياسية ومدير برنامج الدراسات العليا في سياسة الشرق الأوسط في جامعة إكستر البريطانية