«إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهب، فلن أقبل، إن أرض فلسطين ليست ملكي إنما هي ملك الأمة الإسلامية» كانت رسالة السلطان العثماني، عبد الحميد الثاني، عندما طالبه مؤسس الصهيونية، هرتزل،أن يعطيهم فلسطين لتكون وطنًا قوميًّا ليهود العالم. اشتهر عبد الحميد الثاني، السلطان الرابع والثلاثون للخلافة العثمانية، الذي تولى الحكم أغسطس 1842، بموقفه الرافض لتوطين اليهود في فلسطين، أو بيعها لهم، وتسبب رفضه في خلعه من الحكم ثم النفي. وروى السلطان عبد الحميد، في كتابه «مذكراتي السياسية»، رفضه لتوطين اليهود في فلسطين، قائلًا: «لليهود قوة في أوروبا أكثر من قوتهم في الشرق، لهذا فإن أكثر الدول الأوروبية تحبذ هجرة اليهود إلى فلسطين؛ للتخلص من العرق السامي، الذي زاد كثيرا، ولكن لدينا عدد كاف من اليهود، فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي الإسلامي متفوقاً في فلسطين يجب ألا نسمح بتهجير اليهود إليها، وإذا كان الأمر عكس ذلك وسمحنا لهم بالهجرة، فإنهم بفترة قصيرة سيسيطرون على الحكم، وتصبح فلسطين تحت سيطرتهم، وبذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين الموت المحتم». وأضاف: «لن يستطيع رئيس الصهاينة هرتزل أن يقنعني بأفكاره، ويرى (أن حل المسألة اليهودية (Yahudi Meselesi) ستنتهي يوم يستطيع اليهودي قيادة محراثه بيده)، وربما كان هرتزل على حق بالنسبة لشعبه، فانه يريد أرضاً لهم، ولكن نسي أن الذكاء وحده ليس كافياً لحل جميع المشكلات، إن الصهيونية لا تريد أراضيَ زراعية في فلسطين لممارسة الزراعة فحسب، ولكنها تريد أن تقيم حكومة، ويصبح لها ممثلون في الخارج. إنني أدرك أطماعهم جيداً، وإنني أعرض هذه السفالة لأنهم يظنونني إنني لا أعرف نواياهم أو سأقبل بمحاولاتهم، وليعلموا أن كل فرد في إمبراطوريتنا كم يكنّ لليهود من الكراهية طالما هذه نواياهم، وأن الباب العالي ينظر إليهم مثل هذه النظرة، وإنني أخبرهم أن عليهم أن يستبعدوا فكرة إنشاء دولة في فلسطين لأنني لا زلت أكبر أعدائهم». وقالت مؤسسة الدراسات الفلسطينية، إن «اليهود بدءوا في إحياء فكرة اتخاذ فلسطين وطن قومي لهم، عندما عقدوا، مؤتمرهم الصهيوني الأول في (بازل) بسويسرا عام 1315ه، 1897م، برئاسة ثيودور هرتزل (1860م-1904م) رئيس الجمعية الصهيونية، اتفقوا على تأسيس وطن قومي لهم يكون مقرًا لأبناء عقيدتهم، وأصر هرتزل على أن تكون فلسطين هي الوطن القومي لهم، فنشأت فكرة الصهيونية، واتصل هرتزل بالسلطان عبد الحميد مرارًا ليسمح لليهود بالانتقال إلى فلسطين، ولكن السلطان كان يرفض، ثم قام هرتزل بتوسيط كثير من أصدقائه الأجانب الذين كانت لهم صلة بالسلطان أو ببعض أصحاب النفوذ في الدولة، كما قام بتوسيط بعض الزعماء العثمانيين، لكنه لم يفلح». وأخيرًا زار «هرتزل» السلطان عبد الحميد بصحبة الحاخام موسى ليفي وعمانيول قره صو، رئيس الجالية اليهودية في سلانيك، وبعد «مقدمات مفعمة بالرياء والخداع، أفصحوا عن مطالبهم، وقدَّموا له الإغراءات المتمثلة في إقراض الخزينة العثمانية أموالاً طائلة مع تقديم هدية خاصة للسلطان مقدارها خمسة ملايين ليرة ذهبية، وتحالف سياسي يُوقفون بموجبه حملات الدعاية السيئة التي ذاعت ضده في صحف أوروبا وأمريكا»، بحسب «مؤسسة الدراسات الفلسطينية». لكن السلطان رفض بشدة وطردهم من مجلسه وقال: «إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا فلن أقبل، إن أرض فلسطين ليست ملكي إنما هي ملك الأمة الإسلامية، وما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع و ربما إذا تفتت إمبراطوريتي يوما، يمكنكم أن تحصلوا على فلسطين دون مقابل، لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة؛ لأنها ليست ملكي بل هي ملك شعبي، وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا فرقت دولتي من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولاً في جثتي قبل الحصول على فلسطين». وبعدها أصدر السلطان عبد الحميد، أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين، بعد تأكد اليهود من عزم السلطان على منعهم من التمكن من فلسطين، وفشلت كل إغراءاتهم المالية من أجل ذلك، أخذوا في التآمر مع كل القوى المعادية للمسلمين والتنسيق مع كل الاتجاهات من أجل إزاحة السلطان من طريق أطماعهم بفلسطين. وبحسب صحيفة «البيان» الإماراتية: «بدأت خطوات الإطاحة بتدبير مظاهرات صاخبة في عدة مدن مثل سلانيك ومناستر، للضغط على عبد الحميد من أجل إعادة الدستور، فالتف عبد الحميد على هذه الضغوط وأعلن عودة البرلمان والدستور وسكت عن اعتداءات رجال الاتحاد والترقي على رجاله المقربين وأتباعه، لم تكن هذه الخطوة كافية للإطاحة برجل في وزن عبد الحميد له مكانة وجلاله في قلوب العثمانيين، فتم تدبير حادثة 31 مارس 1909 في إسطنبول، وهي الحادثة التي قتل فيها بعض عسكر جمعية الاتحاد والترقي بإسطنبول، وحدثت فوضى عارمة في العاصمة بتخطيط يهودي صرف، وعلى أثره دخل عسكر الاتحاد والترقي من سلانيك إلى إسطنبول وارتكبوا مذبحة كبيرة في قصر الخلافة بلا مبرر، وقتلوا إسماعيل حقي وزير الحربية، ووجهوا اتهامات للسلطان عبد الحميد بأنه يريد إحياء الشريعة الإسلامية». وتابعت الصحيفة: «تم تشكيل ما يسمى المجلس الملكي، فاجتمع مع مجلس حركة الاتحاد والترقي وقرروا خلع السلطان عبد الحميد، وذلك بعد استصدار فتوى من شيخ الإسلام محمد ضياء الدين تحت التهديد، وتوجه وفد مكون من الفريق بحري «عارف حكمت»، وآرام الأرمني، وأسعد طوبطاني، وعمانوئيل قره صو اليهودي، إلى قصر الخلافة وسلموا رسالة الخلع للسلطان، الذي تقبّل الأمر بهدوء لكن بعزة المسلم وكرامة خليفة المسلمين، وأشار السلطان إلى قراصو اليهودي وقال: (وما هو عمل هذا اليهودي في مقام الخلافة؟ وبأي قصد جئتم بهذا الرجل أمامي)، وتمّ نفيه إلى قصر الأتيني الذي كان يملكه شخص يهودي إمعاناً في إذلاله، حيث عاش معزولاً عن الناس، محاطاً بحراسة مشددة بعد أن جُرّد من كل ثروته، ثم نُفي بعد ذلك إلى (قصر بيلربي)، حيث توفي عن عمر ال 76 عاماً في (10فبراير 1918». وأرجع السلطان عبد الحميد الثاني عزله، لرفضه توطين اليهود في فلسطين. وقال السلطان، في مذكراته، التي كتبها إلى شيخه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أرفع عريضتي هذه إلى شيخ الطريقة العلية الشاذلية، إلى مفيض الروح والحياة، وإلى شيخ أهل عصره الشيخ محمود أفندي أبي الشامات، وأقبل يديه المباركتين راجيا دعواته الصالحة، بعد تقديم احترامي أعرض أني تلقيت كتابكم المؤرخ في 22 مارس، وحمدت المولى وشكرته أنكم بصحة وسلامة دائمتين، سيدي: إنني بتوفيق الله تعالى مداوم على قراءة الأوراد الشاذلية ليلا ونهارا، وأعرض أنني مازلت محتاجا لدعواتكم القلبية بصورة دائمة. وتابع: «بعد هذه المقدمة أعرض لرشادتكم وإلى أمثالكم أصحاب السماحة والعقول السليمة المسألة المهمة الآتية كأمانة في ذمة التاريخ: إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما، سوى أنني _ بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون تورك) وتهديدهم _ اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة، إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة -فلسطين، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا وعدوا بتقديم (150) مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبا، فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: (إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبا - فضلا عن (150) مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهبًا- فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والمحمدية ما يزيد عن ثلاثين سنة، فلن أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل تكليفكم بوجه قطعي أيضا)، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير». وتابع: «هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين، وكان بعد ذلك ما كان، ولذا فإنني أكرر الحمد والثناء على الله المتعال، وأعتقد أن ما عرضته كاف في هذا الموضوع الهام، وبه أختم رسالتي هذه».