فى الفترة من 31 يناير إلى افتتاح مهرجان برلين ال64 أمس الأول الخميس، فقدت السينما المخرج المجرى ميكلوشيانتشو، أحد أعظم المبدعين فى كل تاريخ السينما، والممثل الأمريكى فيليب سيمور هوفمان، والممثل النمساوى مكسمليان شل، وكلاهما من عظماء فن التمثيل أيضاً، وقررت إدارة مهرجان برلين تذكر الثلاثة بعرض فيلم من أفلام كل منهم. الأمريكيون غاضبون، ليس لوجود فيلم أمريكى واحد فى المسابقة، وإنما أساساً بسبب ارتفاع تكاليف الاشتراك فى سوق الفيلم الأوروبية. وقد نشرت «هوليود ريبورتر» فى العدد الأول من نشرتها اليومية، التى تصدر أثناء المهرجان، تقريراً عن هذا الغضب، وجاء فيه أن تكلفة فريق عمل قليل يأتى من أمريكا تتجاوز 30 ألف دولار، وأن العرض الواحد فى السوق كان يتكلف فى العام الماضى 2520 دولارا، وفى هذا العام ازداد بنسبة 50 فى المائة وأصبح 3780 دولارا، وبرر المسؤولون الارتفاع بتكاليف تحويل القاعات إلى ديجيتال. وقال البعض إن المهرجان يقام فى الوقت الخطأ، حيث الطقس تحت الصفر وإلى درجة الجليد. عرض فى افتتاح المهرجان الفيلم البريطانى الألمانى «فندق بودابست الكبير»، إخراج الأمريكى ويس أندرسون، وأول أفلام المسابقة، وذلك على غير المعتاد، حيث يكون فيلم الافتتاح من أفلام خارج المسابقة. هذا هو الفيلم الروائى الطويل الثامن لمخرجه الذى ولد عام 1970، ودرس الفلسفة فى الجامعة وأخرج أول أفلامه عام 1996. ومن المعروف أن هناك مدرستين كبيرتين للسينما فى الغرب، وهما المدرسة الأمريكية والمدرسة الأوروبية. ويعتبر أندرسون من المخرجين الأمريكيين القلائل الذين يجمعون بين المدرستين، ولذلك ليس من الغريب أن يكون فيلمه الجديد إنتاجاً بريطانياًألمانياً، وأن يعرض فى افتتاح أول مهرجانات العام الأوروبية الكبرى، كما أنه فيلم عن أوروبا، ومن أفلام «كل النجوم»، حيث يشترك فيه أكثر من عشرة من كبار نجوم أوروبا وأمريكا، من: رالف فينيس وهيرفيكيتيل وماتيو آلماريك وتيلدا سوينتون وليا سيدو إلى ف. موراى إبراهام ووليم دافو وإدوارد نورتون وجيف جولدمان وبيل موراى وأدريان برودى وجود لاو. تمر هذا العام مائة سنة على الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، وتدور أحداث الفيلم عام 1932 عندما وصلت فترة الاضطرابات الكبرى التى أعقبت هذه الحرب إلى الذروة، وأدت إلى وصول النازى إلى الحكم فى ألمانيا عام 1933، وأصبحت بعد ذلك تعرف بفترة ما بين الحربين العالميتين عندما أشعل النازى الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945). ولكن الفيلم ليس تاريخياً وإنما كوميديا سوداء بأسلوب خيالى عما أطلق عليه الراوية «السلخانة» المسماة إنسانية. بعد الحرب العالمية الأولى عُرف فى أوروبا تعبير «الأيام الجميلة الماضية» فى وصف فترة ما قبل الحرب، وكانت دول أوروبا الكبرى تحتل أكثر من نصف العالم، وتشعر بأن الدنيا قد دانت لها، وأن ما تعيشه هو «نهاية التاريخ» كما يقال الآن عن أمريكا بعد سقوط جدار برلين ونهاية النظم الشيوعية، وأدركت أوروبا مع الحرب العالمية الأولى أنها كانت تعيش فى وهم كبير. الفيلم مصور فى العديد من مدن شرق أوروبا، وعنوانه فندق يحمل اسم عاصمة المجر التى كانت تشكل أحد ضلعى الإمبراطورية النمساوية المجرية قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن أحداثه تدور فى بلد خيالى لا وجود له فى الواقع، وحتى شعار النازية (الصليب المعقوف) مع صعودها فى نهاية الفيلم ليس شعارها الحقيقى، وإنما شعار خيالى يسمى «زيجزاج». وتتمثل أوروبا التى صدمتها الحرب العالمية الأولى فى شخصية الكونتيسة (تيلدا سوينتون) التى عاشت حتى أرذل العمر وهى تملك ثروة هائلة، وأحبت جوستاف (رالف فينيس) مدير فندق بودابست الكبير، وفى بداية الفيلم تودعه وتموت وتوصى بمنحه لوحة تقدر بالملايين، ولكن ابنها ديمترى (أدريان برودى) يتهم جوستاف بخداع أمه وقتلها حتى يحصل على اللوحة. وهذه الحكاية هى جوهر الفيلم، ولكنها تتداخل مع حكايات أخرى حتى إن الفيلم يبدو أقرب إلى شكل «ألف ليلة وليلة»، ولكن شهرزاد هنا هى مصطفى (ف. موراى إبراهام) الذى يروى حكاياته إلى الكاتب شيرفيستيللر (جود لاو)، كما تختلف الأزمنة من الزمن الحالى إلى 1985 ثم 1968 ثم 1932. ويصل أسلوب الفيلم الخيالى إلى حد التجريد كما فى الأفلام التشكيلية (التحريك). «فندق بودابست الكبير» عن عالم مجنون أو جنون العالم. إنه فيلم ممتع، ويتميز بالبراعة فى الإخراج والتصوير والمونتاج والتمثيل والموسيقى (تأليف الموسيقار الفرنسى الكبير ألكسندر ديسبلات)، ولكنه يتناول موضوعاً كبيراً بخفة غير مناسبة، ويعبر عن رغبة مخرجه فى إطلاق العنان لخياله، ولكنه مقيد بعقلانية باردة تتناقض مع تحقيق هذه الرغبة. [email protected]