منذ الوهلة الأولى التى تم فيها الإعلان عن إنشاء «بنك الطعام المصرى» وأنا لا أرى فيه خيراً على الإطلاق.. ولقد سبق لى عام 2006 أن وجهت نقداً قاسياً لهذه الفكرة السخيفة التى اعتبرتها آنذاك «أوجع إهانة للمصريين الفقراء».. والآن بعد أن تحول «بنك الطعام» إلى «صنم مقدس» اجتذب إلى صفه حشداً ضخماً من الكُتاب الكبار، وحشوداً أخرى من الشخصيات العامة المرموقة وغير المرموقة، وتبارى نجوم ونجمات السينما والفضائيات فى الإشادة بدوره العظيم فى توفير الطعام للجائعين والمشردين، الآن أكرر، مرة أخرى فى ارتياح كامل أن هذا البنك، فكرةً ومشروعاً ومضموناً، تحول من مجرد مشروع خيرى إلى خطيئة اقتصادية واجتماعية لا تُغتفر. لقد أصابنى الذهول وأنا أطالع فى الصفحة الثالثة من «أهرام» الاثنين الماضى، تغطية إخبارية لندوة أقامها «قطاع خدمة المجتمع وتنمية البيئة» بجامعة عين شمس، حضرها إلى جانب رئيس الجامعة ونوابه جمع غفير من الأساتذة والطلاب، الذين استمعوا إلى محاضرة قدمها الرئيس التنفيذى لبنك الطعام، عن حجم الإيرادات والتبرعات، وحجم الخدمات التى قدمها البنك للفقراء، وجاء فى المحاضرة نقلاً عن «الأهرام» أن إجمالى إيرادات البنك وصل إلى 25.4 مليار جنيه بنهاية 2010، وأن حجم التبرعات النقدية والعينية يصل إلى 3 مليارات جنيه سنوياً! أما الخدمات أو الإنجازات التى قدمها بنك الطعام فهى تفصيلاً: تقديم إطعام شهرى جاف خلال عام 2010 لنحو 120 ألف أسرة، وإطعام 750 ألف أسرة خلال شهر رمضان، وذبح 82500 أضحية العام الماضى، تم توزيع جزء من لحومها على المستحقين، والباقى تم تحويله لمعلبات مع خضار مطبوخ، صلاحيته تزيد على العام، بواقع 6.5 مليون عبوة استفادت منها مليون أسرة فقيرة، أما بقية الإنجازات الخارقة فتدور كلها حول محو أمية بعض فتيات الريف وتعليمهن بعض الحرف، وتأهيل الشباب للالتحاق بوظائف فى الفنادق بالاتفاق مع وزارة السياحة، ورعاية أطفال الشوارع بالاتفاق مع اليونيسيف!! يا إلهى.. أكثر من 25 مليار جنيه من التبرعات الأهلية فى أربع سنوات فقط.. يتم استثمارها فى مجرد تعميق التسول بين الفقراء!.. سيقول قائل: وما البديل؟ والإجابة أقدمها دون تردد: إذا كان النقص الحاد فى توليد فرص العمل هو المشكلة.. وإذا كان توفير «الطعام» هو الهدف.. فلماذا لا نساعد الفقراء على إنتاج طعامهم بدلاً من تسوله؟ إن ال25 مليار جنيه تكفى وتزيد لاستصلاح مليون فدان فى الصحراء يتم توزيعها على مائة ألف أسرة فقيرة، بواقع 10 أفدنة لكل أسرة، وتكفى أيضاً بالإضافة إلى ذلك، لتمويل إحياء عشرات الحرف التراثية المرتبطة بالزراعة، وتمويل إنشاء آلاف المشروعات الصغيرة والمتوسطة، مثل محال بيع البذور والتقاوى والمخصبات والأسمدة والمبيدات ومستلزمات الرى الحديث وورش صيانة المعدات والآلات الزراعية ومصانع الزيوت والأعلاف والأخشاب والورق والجلود ومحطات الفرز والتعبئة والتغليف، وحلقات التسويق، وغيرها الكثير من المشروعات التى تستوعب مئات الآلاف من العمالة التى سيقوم بنك الطعام بتدريبها وتأهيلها، عندما يقرر التحول إلى بنك لإنتاج الطعام، بدلاً من تبديد موارد التبرعات الأهلية الضخمة، فى خطيئة شراء المواد الغذائية المستوردة أصلاً.. واستخدامها فى مجرد تكريس اقتصاد التسول وإهدار الكرامة! [email protected]