يوميات الخوف

فى مجموعتى الفلسفية «عبارة غزل» قصة بهذا العنوان: «يوميات الخوف» كتبتها وأنا فى باريس فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى وهى من القصص النادرة التى تعبر عن تجربة أو معاناة شخصية وتتحدث البطلة عن محطات الخوف فى حياتها وأحداثها الجسام، فتبدأ برحيل جمال عبدالناصر والزلزال النفسى الذى عصف بكيانها، ثم بمغادرة القاهرة إلى العاصمة الفرنسية و«المجهول» المخيف بها وزيارة الرئيس أنور السادات للقدس المحتلة التى مازالت مرارتها فى حلقى وتلاها رفع علم إسرائيل فى قاهرة المعز أول عاصمة عربية «يرفرف» فيها علم الدولة العبرية وانتهت بأن غسالتها الأوتوماتيكية قد أصابها عطب ورائحة عفن المياه تشعرها بالغثيان وذلك جنباً إلى جنب مع الخشية من عدم وجود مقابر للمسلمين فى باريس والحرب الأهلية اللبنانية، عاودنى الخوف وأنا أتابع مسرحية «عملية السلام» العبثية والمستمرة منذ سنوات شبابى حتى بلغت السن الحرجة والتى تقترب فيها رحلة الحياة من نهايتها، بينما لا «تنتهى» العملية..
عملية بدأت بمطالبة «المجتمع الدولى» بإجبار إسرائيل على الجلاء ليس عن كل فلسطين، بل فقط عن الأراضى المحتلة عام 67 وانتهت إلى تواضع المطالب العربية إلى ما هو دون الحد الأدنى ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يسير منفوش الريش كالطاووس وهو يؤكد بأعلى صوت أن الاستعمار الاستيطانى سيتواصل ومعه تشريد الفلسطينيين و«يتهم؟!» هؤلاء الفلسطينيين بعرقلة عملية السلام لأنهم يرفضون المفاوضات فى ظل استمرار إحلال اليهود مكانهم ومصادرة أراضيهم وقلع أشجارهم وحرقهم بالقنابل الفوسفورية..
وطالبنا العقلاء بأن نخرج المناديل لنمسح دموع الأسى على الإدارة الأمريكية العاجزة فى مواجهة التجبر الإسرائيلى وكأن إسرائيل هى التى تمد أمريكا بأسباب الحياة بالمساعدات المليارية وبأسباب التوسع وقهر العرب واستلاب حقوقهم بكل ما فى الترسانة الإسرائيلية من أسلحة، وشهر سلاح الفيتو الرهيب فى وجوه العرب وكأن هذا الفيتو اللعين فى أيدى حكام إسرائيل منذ إنشائها والأدهى أن واشنطن تظهر لنا العين الحمراء الآن لنعترف «بيهودية» إسرائيل وهو ما سوف يؤدى من بين سلسلة الكوارث إلى هدم المسجد الأقصى..
وكنت قد كتبت عام 1996 مقالاً فى صحيفة الأهرام عنوانه «قرار معلن بهدم الأقصى» ولم أكن أتصور أن إسرائيل ستجرؤ على إعلان نيتها فى ذلك حين فرح مسؤولون بها، نهاراً جهاراً، عن نيتها إقامة الهيكل اليهودى الذى تسميه هيكل سليمان، وذلك أثناء افتتاح كنيس «الخراب» بالقدس وأشاروا إلى نبوءة يهودية تتضمن أن إقامة هيكل سليمان مكان المسجد الأقصى ستتحقق عقب إقامة كنيس الخراب،
أذكر فى عام 68 على ما أعتقد أن «حريق الأقصى» كان العنوان الرئيسى فى جميع الصحف، بينما توارت أخبار احتمالات هدمه الآن إلى الصفحات الداخلية أو فى مساحة صغيرة بالصفحات الأولى تماماً مثلما هبطت يوميات الخوف من الأحداث الجسام إلى مجرد عطل غسالة، ونحن لانزال «ملتزمين» بعملية السلام بعد أن صغرت مطالبنا من الجلاء إلى التعايش ومن المفاوضات إلى المحادثات!! والتى قد تصل إلى الدردشة.. وكأنهم، الأمريكان والإسرائيليين اكتشفوا أننا نحب الدردشة إلى حد الإدمان!! برعاية أمريكية!!