«إياكم تصدقوا إن فيه مستشفيات حكومية هيتم تحويلها لمستشفيات استثمارية.. ده كلام تأليف وتلحين». هكذا أجاب الرئيس مبارك عن سؤال لبعض النواب فى مجلسى الشعب والشورى، خلال خطابه أمام المجلسين يوم الأحد الماضى، بمناسبة بداية الدورة البرلمانية الجديدة. والحقيقة أننا نتمنى أن يتدخل الرئيس بنفسه لوأد الاتجاه الحكومى الصارم نحو تحويل المستشفيات الحكومية من أماكن لتقديم الخدمة الصحية للمواطنين، إلى أماكن لبيع هذه الخدمة، وسد العجز الكبير فى ميزانية وزارة الصحة من جيوب المرضى الفقراء. ما قاله الرئيس مبارك عن «التأليف والتلحين» يختلف تماماً عن مضمون «اللائحة الموحدة للعمل فى مستشفيات وزارة الصحة»، التى أعدتها وزارتا الصحة والتنمية المحلية قبل أسابيع وأعلنها الدكتور حاتم الجبلى، وزير الصحة، عدة مرات، ودافع عنها باستماتة فى كل وسائل الإعلام، وقامت بعض الصحف مؤخراً بنشر ملخص واف لأهم بنودها، يؤكد بما لا يدع مجالاً لأى شك أن «الكلام عن تحويل المستشفيات الحكومية إلى مستشفيات استثمارية» تجاوز مرحلة التأليف والتلحين إلى مرحلة التمهيد للتطبيق الفعلى خلال الأسابيع القليلة المقبلة. تنص «اللائحة الموحدة» على تقسيم العمل بالمستشفيات التابعة لوزارة الصحة إلى ثلاثة أقسام يومياً، القسم الأول يبدأ من التاسعة صباحاً حتى الساعة الواحدة ظهراً، وهو مخصص للعلاج المجانى، والثانى يبدأ من الواحدة ظهراً حتى الخامسة بعد الظهر، وهو مخصص للعلاج الاقتصادى، الذى يضع مقابلاً مادياً للكشف فى العيادات الخارجية على المرضى، يتراوح بين 10 جنيهات و15 جنيهاً، حسب درجة الطبيب، أما القسم الثالث وهو الأهم فيبدأ من الخامسة بعد الظهر حتى التاسعة صباحاً، وهو مخصص للعلاج بأجر، وتؤكد «اللائحة» حق كل طبيب فى أن يحدد الأجر الذى يريده، وحق إدارة المستشفى فى تحديد المقابل المادى للفحوصات والمستلزمات الطبية وغير ذلك. وتضع اللائحة ضوابط لتوزيع الأموال المتحصلة من العلاج الاقتصادى والعلاج بأجر، تذهب بكل الأموال إلى الأطباء والمديرين ومجالس إدارات المستشفيات ومديريات الصحة فى عواصم الأقاليم والإدارة المركزية فى الوزارة التى خصتها اللائحة ب5% من جملة الحصيلة على مستوى الجمهورية، وهو الأمر الذى يكشف، بوضوح شديد، عن أن الهدف الأول والأخير من هذه اللائحة هو سد العجز فى موازنة وزارة الصحة، الذى وصل إلى حوالى 9 مليارات جنيه سنوياً، وبدلاً من تدبيرها من الموازنة العامة للدولة لتحسين الخدمة الصحية فى المستشفيات وتحسين أجور وحوافز الأطباء، لجأت وزارة الصحة إلى حيلة اللائحة لتدبير هذه الأموال من جيوب المواطنين. إنه إذن سُعار الجباية من المواطنين، الذى تحول إلى أداء سياسى عام يحكم تصرفات كل الوزارات، وهو سُعار تمكّن من مراكمة أموال طائلة فى «الصناديق الخاصة» بالوزارات والمحافظات، وهى صناديق كما نعلم لا تخضع لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات، وقد تحولت فى العقدين الأخيرين إلى مراتع للنهب، وضاعت معظم أموالها فى حسابات كبار الموظفين، وكانت سبباً رئيسياً فى إفساد كل مستويات الوظائف العامة فى مصر. وإذا كان مقبولاً أن نسكت عن السُّعار فى أى مجال، فليس مقبولاً أن نوافق على امتداده إلى الخدمة الصحية، فى بلد يعانى من جملة أمراض وبائية ومزمنة، تسببت فيها الحكومات المتعاقبة، التى ينبغى أن تتحمل مسؤولية علاج المواطنين من هذه الأمراض، لأن الأمر يتعلق فى النهاية بمصلحة قومية عظمى، هى صحة الشعب، التى تعلو فوق أى مصلحة أخرى. [email protected]