فى يوم من الأيام وأنا فى سنوات دراستى بأمريكا، قال لى الدكتور المشرف على رسالتى، وكان دارسا لعلم النفس ولذلك كنت أستمتع بتجاذب أطراف الحديث معه فى شتى الأمور الشخصية، قال لى: شوفى يا غادة (بالإنجليزى) فى الدنيا دى، محدش هيحبك قد أبوكى وأمك (بالإنجليزى برضه)، والراجل الوحيد الذى لن يخذل توقعاتك وهيحبك بعَبَلك هو أبوكى فقط (أيوة أيها القارئ الفتك قالى «بعبلك» بالإنجليزى).. تذكرت هذه الكلمات عندما ذهبت الأسبوع الماضى مع أبى لحضور حفلة عمرو دياب والتى كانت لصالح معهد الأورام الجديد.. والحقيقة أن والدى طول عمره لا يسمع غير أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، ولا يعلم شيئا عن الجيل الجديد عموما بمن فيهم أنا، لولا أنه اكتشف إنى باكتب فى «المصرى اليوم» فتعرف علىّ.. ولكن لأنه يعلم أننى أعشق الانطلاقات الصغيرة وأختنق دونها، فلم يشأ أن يحرمنى من انطلاقة صغننة أرى فيها عمرو دياب لأول مرة.. وذهبنا إلى هناك.. وفوجئت!!.. مصر كلها جاءت لترى عمرو دياب!!.. وجلسنا على الكنبة فى مكان مخصص لكبار الزوار.. ولكن بعد قليل فوجئنا بالشباب يتسرب إلى المكان.. على استحياء فى البداية.. حتى أصبحوا كالجراد المنتشر.. نظرت حولى فوجدت كل قاطنى الكنب المخصص لكبار الزوار ينهون الشباب والأطفال عن الوقوف فى محيط رؤيتهم وهذا شىء طبيعى.. إلى أن فوجئت بالشباب يقترب من محيط جلستنا وقد كانت من الأماكن القريبة جدا لعمرو دياب.. فتوقعت من أبى أن ينهرهم هو الآخر.. ولكنى فوجئت به يدعوهم للجلوس معنا على الكنبة والتى كانت تشاركنا عليها فنانة جميلة ابتسمت عندما رأت تصرف أبى.. فى البداية لم يصدق الشباب الأمر وترددوا فى تنفيذ ما قاله لهم أبى.. وظنوا أنه ربما هناك خدعة فى الأمر.. غالبا ظنوا أن أول ما هيقعدوا هينزل فيهم ضرب بالشبشب.. أو أنه غالبا أول ما هيقعدوا هينادى على عثمان وإدريس يرموهم برة.. ولكنهم عندما شعروا بأن العزومة بجد بدأت أسراب من الشباب والأطفال يتجمعون فى مجلسنا.. دقائق وظهر عمرو دياب، فاستأذن واحد من الشباب أبى فى أن يقف على الكنبة حتى يتمكن من الرؤية، فابتسم له أبى موافقا.. وفى دقائق كانت الكنبة مهروسة تحت أقدام الواقفين.. هو بس واحد منهم يبدأ حركة جريئة تبص تلاقى الباقيين ركبوا فوقه!!.. شباب متحمس فعلا!!.. وانتشر بين الشباب أن مجلس أبى ليس محظورا عليهم فأصبحت منضدتنا فى خلال خمس دقائق مقراً ومستودعاً للطلبة من كى - جى - وان وحتى بكالوريوس.. ونظرت إلى أبى فوجدته مستغرقا فى الضحك لأنه أصبح هو الآخر لا يستطيع أن يرى عمرو دياب من زحام الشباب أمامه، فنصحته بأن يتوكل على الله ويقف فوق الكنبة هو كمان.. وهنا نقح عليه البرستيج فاكتفى بأن يجلس القرفصاء على يد الكنبة.. أما أنا فأثناء انطلاقى فى الغناء مع الواقفين أخذت أتأمل فى هذا الجمع الغفير.. شعب مصر كله تجمع على قلب رجل واحد ليرى عمرو دياب.. لم يسأل أحد الآخر إنت مسلم وللا مسيحى.. لم يسأل أحد الآخر إنت ابن مين فى مصر.. والموضوع تعدى مجرد الإعجاب الشديد بمطرب فأصبح ظاهرة انتماء فريدة لعمرو دياب.. وربما يوما ما يجعلون السلام الوطنى إحدى أغنيات عمرو دياب ونكون كده بلد كوول بين الأمم.. والسؤال المهم الذى لم يتوقف عنده أحد: لماذا هذا الانتماء العجيب لعمرو دياب فى عصر أصبح الشباب شغلهم الشاغل فيه هو ترك هذا البلد باللى فيه؟ والإجابة هى ببساطة لأن عمرو دياب على مدى خمسة وعشرين عاما هى عمره الفنى لم يخذل جمهوره.. أحبهم وتفانى لهم فأحبوه.. بينما على الجانب الآخر تتفنن الحكومة فى تضييق الحياة عليهم بما لذ وطاب من القوانين الجائرة والضرائب وشتى ألوان الفساد.. والإنسان عندما ييأس من عدل الأرض فهو يلجأ لإنشاء قوانين خاصة به تبرر له ما يمكن أن يتحايل به على القوانين الرسمية الجائرة.. فيصبح كل مواطن بذاته دولة داخل الدولة.. له تقاليده الخاصة به وقوانينه وأحكامه، ومن هنا تأتى المشاكل والتناقضات.. المهم.. لن أطيل عليك فذلكتى التحليلية وأعود بك إلى الحفل حيث ظللت أنا وأبى نعزم على المزيد من الشباب والصغار أن يقفوا معنا حتى ظننت أن أبى سيعزمهم أيضا على العشاء الذى تم إنزاله على المناضد !!.. وهكذا، مضت ليلتنا والشباب واقف حولنا والصغار على حِجرنا ونحن نعزم ونعشى ونكرع.. وابتسمت حين همست لى إحدى الشابات فى أذنى: «باباكى طيب قوى، ربنا يخليهولك».. ولكنى تنحت وزعلت منه قوى عندما نظرت لى الصغيرة التى كانت تجلس على حجرى والتى لم يتعد عمرها ست سنوات وهمست فى أذنى قائلة: «طنط، عايزة أعمل پى پىا !