منذ شهور وأنا أعكف على مراجعة أوراق ووثائق عن حياة مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا، وكلما توغلت فى البحث أصابنى الذهول من حجم ما أكتشفه حول موهبة البنا التنظيمية والمخابراتية. هاجمته إحدى المجلات الشيوعية مرة، فيرد بزرع بعض عناصر الجماعة داخل الجماعات اليسارية، ويترك هؤلاء الإخوان وظائفهم وأعمالهم ويتفرغون لمهمتهم، ويرسلون إلى المرشد كل المعلومات المتعلقة بالشيوعيين، فينشر منها فى صحف الإخوان ما يصلح للتشهير بهم، وما لا يصلح للنشر يتم تسليمه إلى المسؤولين فى وزارة الداخلية، ولما صار لديه فائض معلومات، إذا به يعرض على مسؤول بالسفارة الأمريكية فى القاهرة تأسيس شركة أو مكتب مشترك لمكافحة الشيوعية والشيوعيين، وأن يعين هؤلاء الإخوة بالجماعات الماركسية باحثين فى ذلك المكتب، والهدف أن تتولى السفارة دفع نفقات ورواتب هؤلاء الإخوة، وما حدث مع الشيوعيين حدث مع مصر الفتاة ومع غيره من الجماعات والأحزاب، ويبدو أن عضو الحزب الوطنى الذى اغتال أحمد ماهر كان واحداً من هؤلاء.تركت أوراق حسن البنا وما يدور حوله لأطالع كتاباً صدر مؤخراً للمحامى والكاتب «ثروت الخرباوى» بعنوان «قلب الإخوان»، وما ورد فيه مذهل بحق، ولا يخطر بخيال أحد. غضب مرشد الإخوان مصطفى مشهور على الخرباوى من جراء وشاية، فيصدر المرشد قراراً بمنع الخرباوى من مغادرة منزله لمدة أسبوع، ويذهب مندوب إليه قبل الفجر ليبلغه القرار، ويحتج الخرباوى بأن يوم الجمعة سوف يحل وهو كمسلم لا يمكن أن يترك صلاة الجمعة، فماذا يفعل؟.. وهنا يتم الرجوع إلى المرشد مشهور لعرض هذا المشكل عليه، فيوافق، على أن يتم السماح له بالخروج لصلاة الجمعة، على أن يصحبه من منزله أحد الإخوة ويرافقه حتى العودة ثانية ليتأكد من أنه لن يخطو خطوة واحدة بعيداً عن الصلاة، ويتم تنفيذ العقوبة بصرامة. يقدم ثروت الخرباوى إلى محاكمة داخل الجماعة، ومن بين التهم الموجهة إليه أنه يتعامل مع مجموعة حزب الوسط، أى أبوالعلا ماضى وعصام سلطان، مخالفاً بذلك قرار المستشار مأمون الهضيبى، الذى تم تعميمه على الجماعة، وينص على «منع كل الإخوة من التواصل مع هؤلاء بأى صورة ومنع كل الإخوة من إلقاء السلام عليهم أو رد السلام، ومن بين التهم التى وجهت إليه أنه يعرف الأخ سليم ويتردد عليه ويحضر ندوات له، وقد فعل ذلك دون استئذان الجماعة، ودون مراعاة التعميم الخاص بمجموعة حزب الوسط، لأن الأخ سليم العوا يناصرهم . ويظل «الخرباوى» لأسابيع يعانى من سيارة «هيونداى» فضية تتبعه كظله، وتسير خلف سيارته بانتظام، ويقودها شاب يرتدى نظارة سوداء تخفى معالم وجهه، وتصور الرجل أن السيارة وسائقها من مباحث أمن الدولة، لكن بعد مدة تبين أنها من مباحث أمن الدعوة، فالسائق أحد الرجال المقربين من د. محمود عزت. يعدد «الخرباوى» فى كتابه مظاهر فساد عديدة داخل الجماعة، مثل اثنين من الإخوة أسسا شركة، وقام أحدهما بسرقة الآخر، فاشتكى المسروق، وشكلت الجماعة محاكمة أدانت السارق، لكن السارق قريب من أحد قيادات الجماعة بمدينة نصر، فأسقط الحكم وتشكلت محاكمة جديدة انتهت إلى أن كل ما فى الأمر خطأ فى الأوراق فقط، وذهب السارق بما سرق، راضياً مرضياً (ألا يذكرنا ذلك بمحاكمة عبدالحكيم عابدين وإسقاط حسن البنا من حاكموه؟). يعدد أيضاً مظاهر التنظيم الحديدى، فى بداية ارتباطه بالجماعة، علمه مسؤوله حكمة تقول: «الأخ يسمع ولا يناقش، فمن ناقش هلك»، ومن قال له ذلك صار قيادة إخوانية كبيرة، وفى الجماعة «السمع والطاعة» مبدأ مقدس، ولكن طاعة المرشد العام أولاً وأخيراً، ومن هنا قال أحدهم: «وافق أو نافق أو فارق». نحن بإزاء وثيقة من داخل الجماعة، قال فيها صاحبها ما تعرض له ورآه وعايشه بنفسه، وهناك أشياء نضع حولها علامات استفهام - مثلاً - يصرح أحد المقربين من المرشد بأن مختار نوح «ولد ينفذ بسرعة ومعجب بنجوميته ويجب تحجيمه»، وبعدها مباشرة يذهب مختار إلى اجتماع فى مكان سرى، فيجد المباحث فى انتظاره وعلى علم بكل التفاصيل ويقبض عليه.. هل كان ذلك مصادفة أم تم تسليمه هو ومن معه؟ وتتكرر المشاهد من هذا النوع.. ويبقى التساؤل مفتوحاً وربما نجد إجابة عنه موثقة ذات يوم. الخرباوى يميل إلى أن ينسب ما يجرى داخل الجماعة إلى سيد قطب ومجموعة القطبيين، وهذا ما أخالفه فيه، سيد قطب لم تكن لديه الطبيعة المخابراتية ولا المباحثية، هو قدم أفكاراً بالغة التشدد، وهى أفكار واضحة ومعلنة.. حزب الله أمام حزب الشيطان، لكن ما يجرى من قواعد تنظيمية أقيم بالكامل، فضلاً عن نظام التجسس والمخابراتية هو من ابتكارات حسن البنا أن الذين تعرضوا للسرقة أو للظلم داخل الجماعة، لم يلجأوا إلى المحاكم والقضاء العادى، بل إلى محاكم الجماعة وهى فى النهاية «محاكم استثنائية»، بلا أى ضمانات للحق ولا للعدل، وتلك كانت واحدة من توجيهات البنا فى «رسالة التعاليم» وهى عدم اللجوء إلى القضاء، واللجوء إلى الإخوان.. الدودة فى أصل الشجرة وليست فى فرع أو غصن من غصونها.