4-هل تحتاج الجمعية إلى برنامج سياسى؟ أشرنا فى مقال الأسبوع الماضى إلى أن «الجمعية الوطنية للتغيير»، التى شرحنا تفصيلا ظروف وملابسات نشأتها، ليست حزبا سياسيا يسعى للحصول على رخصة رسمية لممارسة النشاط، وليست «جبهة» أو «ائتلافا» بين قوى سياسية تسعى لخوض الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها فى نوفمبر من هذا العام بقائمة موحدة أو منسقة، أو لاختيار مرشح توافقى تخوض به الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها فى نوفمبر من العام الذى يليه، وإنما مبادرة تستهدف فى المقام الأول توحيد الجهود الرامية إلى إحداث تغيير جذرى فى الأسس التى يقوم عليها النظام السياسى الراهن واستبداله بنظام يقوم على أسس ديمقراطية تعيد للشعب المصرى، مصدر السلطات، حقوقه المغتصبة، وفى مقدمتها حقه فى اختيار حكامه ونوابه ومحاسبتهم. ويبدو واضحا من الظروف والملابسات التى أحاطت بولادة هذه المبادرة أن للحياة السياسية المصرية فى المرحلة الراهنة خصوصية شديدة تجعلها تتسم بقدر كبير من الفوضى والعشوائية. ولأن هناك حاجة ماسة لإضفاء قدر من العقلانية والمنطق على «سوق سياسية» مصرية لاتزال تفتقر إلى الحد الأدنى من الانضباط اللازم لتمكينها من العمل بكفاءة، ولتوفير مناخ يتيح لقواها الفاعلة حرية الحركة وفق ضمانات تحميها من الدوران فى ذات الحلقة المفرغة التى سمحت للحزب الحاكم بالسيطرة المطلقة على كامل الحيز السياسى دون رقيب أو حسيب، فمن الضرورى أن يُنظر إلى «الجمعية الوطنية للتغيير»، فى مرحلتها التكوينية الراهنة على الأقل، باعتبارها أقرب ما تكون إلى «دعوة» لتفجير طاقات التغيير الكامنة لدى شعب مصر منها إلى «آلية» أو «تنظيم مؤسسى» يملك من الوسائل والآليات ما يجعله مؤهلا لتحويل حلم التغيير إلى واقع ملموس على الأرض. فى سياق كهذا، يبدو واضحا أن نجاح المبادرة الجديدة فى تحقيق أهدافها الطموحة يتوقف على مدى قدرتها على إعادة ترتيب الأوراق على ساحة العمل الداخلى بطريقة تساعد قوى التغيير على التحرك قدما على طريق إحداث التغيير المنشود وتجنبها الانزلاق إلى ذات الدائرة الجهنمية المفرغة التى تدور فيها منذ فترة. ولأنه لن يكون بوسع مبادرة من هذا النوع أن تتحول من دعوة لتفجير طاقة التغيير الكامنة إلى قوة قادرة على صنعه إلا بعد تشييد بنية تحتية توفر للتغيير المأمول تربة ملائمة لغرس بذرته وتعهدها بالرعاية إلى أن تزدهر وتثمر، فمن الضرورى أن ندرك أن طريقه طويل وشاق، ويتطلب عملا دءوبا على جبهتين متوازيتين، الأولى: جبهة النشطاء فى صفوف النخبة، وذلك بهدف تنسيق جهود القوى الطامحة للتغيير والساعية لتحقيقه على الأرض، والثانية: جبهة الجماهير، بهدف حث «أغلبيتها الصامتة» على التخلى عن سلبيتها وإقناعها بجدوى النزول إلى الميدان والمشاركة فى صنع التغيير المطلوب. ونظرا لأن العمل على هاتين الجبهتين يتطلب البدء بتحديد القواسم المشتركة التى تربط بين القوى الطامحة للتغيير، فمن الطبيعى أن تركز «الجمعية» فى مرحلتها الراهنة على القضايا التى تجمع وتوحد لا على قضايا خلافية تفرّق وتشتت. لذا يبدو لى أن فتح باب النقاش حول صياغة «برنامج سياسى» للجمعية، كما يطالب البعض، أمر غير مستحب على الإطلاق فى المرحلة الحالية، لأنه سيؤدى حتما إلى إثارة خلافات وتعميق الانقسامات بين الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية بأكثر مما يمكن أن يساعد على توحيد صفوفها وأهدافها. «البرنامج السياسى» قد يكون مسألة لا غنى عنها بالنسبة لحزب سياسى، فالبرنامج السياسى لأى حزب هو أداته العملية للحصول على رخصة تتيح له حق ممارسة النشاط، وهو أداته السياسية والأيديولوجية التى تمكنه من تحديد هويته وصياغة الإطار الفكرى الذى يميزه عن غيره. و«البرنامج السياسى» قد يكون مسألة لا غنى عنها بالنسبة لمرشح رئاسى، لأنه يشكل أداته الدعائية أو الترويجية التى تسمح له بالوصول إلى قلوب الناخبين ومحاولة إقناعهم بالتصويت لصالحه. غير أن صياغة «برنامج سياسى»، بهذا المعنى، لا تعد مسألة أساسية للجمعية الوطنية لسببين، الأول: أنها ليست حزبا سياسيا يهيئ نفسه لخوض الانتخابات التشريعية المقبلة، والثانى: أن الدكتور محمد البرادعى، رئيسها ورمز القوى الملتفة حول شعار التغيير، ليس مرشحا رئاسيا فى الوقت الراهن. غير أن القول بعدم حاجة الجمعية إلى صياغة «برنامج سياسى» لا يعنى التقليل من حاجتها الماسة لطرح «استراتيجية للتغيير». وهناك فرق كبير جدا بين المفهومين، فالبرنامج السياسى يدخل فى تفاصيل القضايا، ويطرح ليس فقط رؤية واضحة للسياسات التى يقترحها فى جميع المجالات، خاصة: التعليم، والصحة، والإسكان، والأجور، والضرائب، وغيرها من السياسات التى تمس الحياة اليومية للمواطنين بشكل مباشر، وإنما عليه أن يطرح أيضا خططا وبرامج وجداول زمنية محددة لوضع هذه السياسات موضع التنفيذ. أما «استراتيجية التغيير»، التى نأمل أن تتمكن الجمعية من طرحها قريبا وشرحها للمواطنين، فليست مطالبة بالدخول فى التفاصيل ويمكنها، بل يجب عليها، أن تتمحور حول قضية مركزية واحدة ألا وهى آليات وسبل إحداث التغيير السلمى المنشود الذى يمكّن البلاد من الانتقال من نظام أحادى، يقوده حزب مهيمن يحتكر السلطة والثروة ويقوم على تحالف قوى الفساد والاستبداد، إلى نظام تعددى حقيقى يسمح بتداول السلطة وفقا لما تقرره صناديق الاقتراع عبر انتخابات تتوافر لها جميع ضمانات النزاهة والشفافية. قد يرى البعض فى القول بعدم حاجة «الجمعية الوطنية للتغيير» إلى برنامج سياسى محاولة للالتفاف على قضية صعبة أو شائكة، أو الهروب من مواجهتها ومعالجتها بالجدية التى تستحقها. غير أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق وإنما يعود إلى طبيعة «الجمعية» وظروف وملابسات قيامها. وطالما أنها لا تطرح نفسها كحزب سياسى جديد يطمح للتنافس مع بقية الأحزاب القائمة، أو كإطار مؤسسى جامع يسعى لصهر الأحزاب والقوى المطالبة بالتغيير فى جبهة واحدة تخوض الانتخابات التشريعية والرئاسية على أرضية الحزب الحاكم ووفقا لقواعده، وإنما تطرح نفسها كمبادرة أو كدعوة للحشد والتعبئة لتفجير طاقات التغيير الكامنة والتنسيق بين جهود قائمة تسعى للتغيير، فعليها أن تبنى على ما هو مشترك فى برامج ورؤى قوى التغيير لا أن تحل محلها وتفرض رؤى وأفكارا جديدة أو مختلفة. وهذا يفسر لماذا اختارت الجمعية أن تبدأ نشاطها بطرح مجموعة مطالب فى بيانها التأسيسى، يفترض وجود إجماع واضح وتام حولها من جانب كل الراغبين فى تأسيس نظام ديمقراطى حقيقى فى مصر، ودعت المواطنين للتوقيع عليه. ويبدو واضحا من ردود الأفعال المختلفة وجود قوى عديدة ترى فى قيام «الجمعية الوطنية للتغيير» خطرا كبيرا على مصالحها، ومن ثم تسعى بكل السبل والوسائل لوأد هذا المولود الجديد واستئصاله قبل أن يشتد عوده، بينما توجد قوى أخرى ترى فيه نبتا طيبا ينبغى تعهده بالرعاية إلى أن يكتمل نضجه ويصبح قادرا على أن يزهر ويثمر. غير أن أطروحات الفريقين حول عدد من القضايا، من بينها قضية «البرنامج»، بدأت تتداخل وتختلط إلى الدرجة التى بات يصعب معها تحديد الخطوط الفاصلة بين المواقف. فالإلحاح على «برنامج سياسى» قد يكون مدفوعا بنوايا حسنة، لكنه قد يكون مدفوعا فى الوقت نفسه برغبة خبيثة فى إثارة وتعميق الانقسام حول قضايا هى بطبيعتها أيديولوجية، ومن ثم خلافية، واستدراجها على طريق المزايدة وتبنى مواقف عنترية من قضايا ليست محل إجماع. غير أن هذه الحقيقة يجب ألا تطمس حقيقة أخرى لا تقل أهمية، وهى أن بعض المنتمين للتيارات الأكثر حرصا على نجاح «الجمعية» يطرحون تساؤلات عن جدوى هذه التوقيعات وعن طبيعة الخطوات المقبلة التى يكتنفها الغموض. ولأنها تساؤلات تبدو منطقية ومشروعة، فمن الضرورى تقديم إجابات واضحة ومقنعة عليها، وهو ما سنحاوله فى مقال الأحد المقبل والأخير فى هذه السلسلة، والذى سنخصصه لطرح أفكار للمناقشة حول «استراتيجية التغيير» المطلوبة.