«حرية الإبداع حق مكفول للمبدع بشرط أن يكون مبدعًا بحق»، بديهة لم تكن محل اعتبار لدى الكثيرين ممن أدلوا بدلوهم في موقعة فيلم «أسرار عائلية»، التي شهدت ومازالت شدًّا وجذبًا وتبادلاً للاتهامات بين أحمد عواض، رئيس الرقابة، وهاني فوزي، مخرح الفيلم، فالكل يتحدث عن حرية الرأي والفكر والإبداع، دون أن يحدد كنه هذه الحرية، وماهية هذا الإبداع والشروط المتوافرة فيه لكي يستحق الدفاع عنه.. وعن صاحبه.أول ما ينبغي الإشارة إليه أن هاني فوزي كاتب موهوب قدم للسينما المصرية عدداً من الأفلام التي أثارت الكثير من الجدل مثل «بحب السيما» عام 2004، و«فيلم هندي» عام 2003، و«الريس عمر حرب» عام 2008، و«بالألوان الطبيعية» عام 2009، إضافة إلى أفلام أخرى لم تحقق النجاح المنتظر مثل «أرض الأحلام» عام 1993، و«كرسي في الكلوب» عام 2001، لكن طموحه غير المحدود كان يدفعه دائمًا إلى التفكير بشكل جدي في التحول إلى الإخراج، بوصفه الحل الأمثل للتعبير عن أفكاره بصورة أفضل، لكنه فاجأني عندما اكتفى بإخراج فيلمه الأول «أسرار عائلية»، الذي أهداه إلى أستاذه داوود عبد السيد، وترك مهمة كتابته إلى شاب يخوض تجربة الكتابة للسينما لأول مرة هو محمد عبدالقادر، الذي اقتبس موضوعه من قصة حقيقية لشاب «مثلي الجنس»، منذ كان في السابعة عشرة من عمره، وعاش أزمة نفسية وصدمة اجتماعية، نتيجة معاناته مع مرض الشذوذ الجنسي، ورغبته في العلاج، وانزعاجه من ملاحقة المجتمع الذي رفض أن يتعايش معه ونظر إليه بوصفه «سرطان» ينبغي استئصاله..مزاعم باطلة وتحفظات قديمةلا أحد يستطيع الزعم أن المعركة العنيفة التي احتدمت بين الرقابة والمخرج هي نتاج أزمة طارئة، أو وليدة اليوم، بل ترجع جذورها إلى الفترة التي تولى فيها عبدالستار فتحي إدارة «الرقابة على المصنفات الفنية»، إذ أجازت الرقابة سيناريو الفيلم في إبريل الماضي، لكنها طالبت بتعديل وحذف بعض المشاهد من بينها مشهد يجلس فيه البطل الشاذ جنسيًّا مع إمام أحد المساجد، لكن المشهد لم يتم حذفه، واستقر «فتحي» بعد نقاش طويل على الإبقاء عليه، لكنه تشبث بحذف مشهد البطل وصديقه أثناء حديثهما عن علاقتهما الجنسية، وأكد أنه طالب صناع العمل بتعديلات على السيناريو المقدم للرقابة، واشترط قبل أن يعطي الفيلم التصريح أن «يقوم المخرج بإجراء التعديلات المطلوبة، أو عمل سيناريو جديد»، وبرر ذلك بأن «السيناريو الأصلي تضمن الكثير من المشاهد الجريئة»، مشيرًا إلى أنه ترك منصبه من دون معرفة آخر المستجدات الخاصة بالفيلم، وهو ما يعني كذب المزاعم التي تقول إن السيناريو أجيز في عهد «الإخوان» ومُنع في زمن «ثورة 30 يونيو»..من هنا لا أبالغ عندما أقول إن الدعوة التي تلقيتها وعدد من النقاد لمشاهدة النسخة النهائية لفيلم «أسرار عائلية» لم تكن سوى محاولة لتشكيل ما يُشبه «حائط الصد» في مواجهة الرقابة والضغط عليها لإجبارها على التراجع عن موقفها الرافض لإجازة عرض الفيلم في صالات العرض التجارية، إلا بعد تنفيذ ملحوظاتها، وهي الحيلة التي يلجأ إليها الموزعون ومعهم المنتجون والمخرجون في حال احتدام المواجهة واستشعار الخطر، ووقتها فقط يتذكر الواحد منهم قيمة ومكانة وقوة تأثير النقاد..لغة فقيرة ورؤية متواضعةأكبر دليل على أن النقاد مجرد «حائط صد» في واقعة «أسرار عائلية» أن المخرج صرح مرارًا وتكرارًا بأنه لن يتخلى عن المشاهد التي طالبت الرقابة بحذفها، بحجة أن «الحذف يخل بمضمون العمل، وسيشوه الفيلم كونه سيؤثر على السياق التسلسلي لأحداثه ومضمونه، والقضية التي يطرحها من ورائه»، وهو ما يعني أن حضور النقاد بلا طائل ولا جدوى من ورائه سوى دعم الفيلم في معركته، ويدفعنا إلى التأكيد مرة أخرى أن «حرية الإبداع» حق مكفول للمبدع بشرط أن يكون مبدعًا بحق، فالأمر الواضح أن الكاتب الموهوب هاني فوزي فشل في أن يُصبح مخرجاً يُعتد به ضمن قائمة المخرجين المبدعين، نظراً للغته السينمائية الفقيرة، وتواضع رؤيته الفنية، وهزال الإمكانات الإنتاجية التي عمل تحت ظلها، باستثناء الاختيار الصائب للوجه الجديد محمد مهران، الذي جسد دور الشاب المثلي «مروان»، والوجه الجديد بسنت شوقي، التي أدت دور الشقيقة «أمنية»، ومعهما عماد الراهب في دور الطبيب «أمجد وهبي»، لا يمكن القول إن «فوزي» قدم إضافة فنية من أي نوع، بل إنه ورط نفسه كثيرًا عندما زعم أن «الحذف سيخل بمضمون الفيلم، ويؤدي إلى تشويهه»، فأي مضمون ذلك الذي سيختل لو أن المخرج استغنى عن مشهد مقزز يظهر فيه البطل عاريًا مع صديقه في الفراش؟ وما المبرر وراء عدم الاكتفاء بقول الشاب المريض للطبيب: «باحب شادي صاحبي في الفصل»، ليُصر المخرج على وضع سؤال قبيح على لسان الطبيب يقول فيه :«يعني عاوز تنام معاه؟».. وإذا كان هناك مبرر علمي لأن ينصح الطبيب «مروان» بارتياد مواقع الجنس عبر «الإنترنت» ليكسر الحاجز النفسي والعاطفي بينه وبين البنات اللاتي لا يشعر بانجذاب نحوهن، فهل كان من الضروري أن نرى على الشاشة صورًا لبنات عاريات ومشهدًا مقتطعًا من «فيلم بورنو» حقيقي؟ وهل كنا في حاجة لأن نتابع المشهد المقزز للأخ الأكبر وهو يعتدي على شقيقه في الفراش؟ أو نستمع إلى الحوار المنحط الذي يغضب فيه «عشيق البطل» لأن فتاه حاول الاعتذار عن لقائهما «الغرامي» فيسأله :«ليه عندك العادة؟» ناهيك عن المشهد الذي يذهب فيه «الشاب المثلي» لممارسة الشذوذ مع شخص مجهول ثم يتبين أنه «لص» يستولي على هاتف الشاب وحافظته ثم يطرده قائلاً: «دي شدة ودن علشان تبطل الوساخة اللي أنت فيها يا ( .....) يا ولاد الكلب»، وما بين القوسين سباب بذيء غير مسبوق في تاريخ الأفلام الروائية الطويلة في السينما المصرية يتشبث به المخرج ويهدد بشن معركة في حال حذفه.. روعة التلميح .. وفجاجة التصريحخالف هاني فوزي شروط العقد غير المكتوب بين المخرج والجمهور عندما تخلى عن التلميح الرقيق الذي يحترم ذكاء ومشاعر المتلقي، ولجأ إلى التصريح الفج الذي يؤذي الأحاسيس ويثير النفور في النفوس وربما يؤجج الفتنة، فاختيار القاهرة القديمة مكانًا لارتكاب الفاحشة بينما المآذن تتبدى في الخلفية ليس سوى نزق وطيش وغياب واضح للمسؤولية، والأمر نفسه في مشهد صلاة الجمعة الذي يتطلع فيه «مروان» إلى ظهر شاب مفتول العضلات ويبدو جليًّا أن الرقابة تدخلت للحيلولة دون اكتمال المشهد، لكن المعنى القذر وصل للمتلقي، كما وصله مغزى المشهد الذي يطرد فيه الشاب الملتحي «حازم» حبيبه «مروان» قائلاً: «بلاش تشدني للرذيلة بعد ما عملت عمرة»، ثم سعيه لإقناعه بعودة العلاقة مبررًا هذا بقوله: «معلهش أنا طردتك المرة اللي فاتت لأني كنت لسه راجع من العمرة»، وهو تبرير فيه تجاوز وتطاول من الكاتب والمخرج فضلاً عن فُحشه ودناءته وانحطاطه ووضاعته..كان في مقدور «فوزي» أن يُقنع من يشاهد فيلم «أسرار عائلية» بالتعاطف مع الحالة المرضية شديدة التعقيد لبطله لو أنه تواضع وهو يكشف المسكوت عنه في المجتمع ويواصل في خشوع نهجه العلمي في تشخيص وتحليل جوانب الظاهرة عبر إرجاعها إلى فشل المؤسسة العائلية «سفر الأب وتسلط الأم وعزلة الأبناء»، وجهل المؤسسة التعليمية «التعامل مع الطلبة بسخرية ولامبالاة وغياب تام للأساليب التربوية الصحيحة»، وتعنت وتعالي المؤسسة الدينية «التلويح بالعقاب الإلهي وعلامات الساعة من دون قبول الآخر أو التوصل إلى لغة تفاهم وحوار»، لكنه انحرف عن مساره حين اختار القبح طريقًا «الشاب المثلي يبصق في كوب الليمون الخاص بالمدرس كنوع من الانتقام»، والغطرسة سبيلاً «أكد المخرج في أكثر من حوار أن فيلمه يطرح الطرق الصحيحة لعلاج مثل هذه الحالات الجنسية الشاذة التي يتعرض لها العديد من الشباب في مقتبل العمر»، وتعامل مع قضيته «الشائكة» بالكثير من العنجهية، والثقة التي تصل إلى حد الغرور، فهو الذي وصف ملاحظات الرقابة بأنها مضحكة، وقال على غير الحقيقة إنها تُطالبه بحذف كل المشاهد التي يخلع فيها أي شاب قميصه، وإنه يملك الحق في أن يضع المشاهد التي يريد طالما منحت الرقابة العمل لافتة «للكبار فقط»، وبدا مشوشاً بدرجة لم أتوقعها عندما أكد أن فيلمه لم يتضمن مشهدًا جنسيًّا واحدًا، وأن المشاهد التي طالبت الرقابة بحذفها ليس بها عري، وتمت إجازتها في أفلام أخرى عرضت بالسينمات، ففي دفاعه ارتباك في التصور وفساد في الإدراك قادا إلى فساد في الاستدلال والاستنتاج، بدليل أنه لا يرى ما يشين في مشهد استلقاء الشاب بجانب أخيه الأصغر واغتصابه، ويبرر جريمته على الشاشة بقوله: «الشاب جاء من الخلف، والولد كان يرتدي تي شيرت أسود، وأغلقت الكادر بظهره في الظلام بحيث لا نشاهد أي فعل»..هو لا يدري أن السينما المصرية قدمت بالفعل مشاهد متفرقة لعلاقات مثلية في أفلام مثل: «عمارة يعقوبيان»، و«مرسيدس»، و«إسكندرية كمان وكمان»، و«حمام الملاطيلي»، و«قطة على نار» و«ديل السمكة»، لكنها لم تُقدمها بمثل هذه الفجاجة، والبجاحة، والترخص، والمباشرة، التي قدم بها «فوزي» مشاهد فيلمه تحت ذريعة حرية الرأي والإبداع..«فوزي» عُد إلى بيتكبعد مساحة كبيرة من الثرثرة مونتاج دعاء فاروق والحوارات الطويلة والمملة التي تتخيل معها وكأنك في قاعة محاضرات بكلية الطب في الفيلم أربع عيادات لأربعة أطباء وأيضاً الموسيقى التي تُعد تنويعة على تيمة واحدة تكررت كثيراً في موسيقى راجح داوود، وكذلك التوظيف المُقحم لأغاني محمد عبدالمطلب الأم التي تتمسح في الأرستقراطية تهوى سماعها بحجة أن والدها كان يحبها يتذكر «فوزي» دوره كمخرج ويوظف مقطعاً لسعاد حسني من أغنية «شيكا بيكا» لصلاح جاهين وكمال الطويل يلخص معاناة البطل تقول فيه: «أنا راح مني كمان حاجة كبيرة.. أكبر من إني أجيب لها سيرة»، ثم ينتفض كمخرج ويُقدم مشهداً عاصفاً لمواجهة قاسية يتهم فيها الابن أباه بالهروب من المسؤولية، ويُلقي في وجهه بالقنبلة المدوية: «ابنك عمره ما حيشرفك لأنه شاذ وبينام مع الرجالة» لكنه يُشير من دون سبب إلى زمن الأحداث «الأب يعود من أمريكا بعد التضييق على العرب عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر»، وهو ما يعكس حالة الاضطراب والتشوش التي سادت فيلم «أسرار عائلية»، الذي بدا أقرب إلى السهرة التليفزيونية التي تبعث على الضجر أو الحملات الدعائية التي تمولها وزارة الصحة للتحذير من الأمراض الوبائية..الخلاصة أن التجربة في مجملها تؤكد أن هاني فوزي تسرع كثيراً، وأنه في حاجة لأن يُراجع نفسه ويعترف بخطئه ويُدرك أن طموحه لا يرتكن إلى أرضية صلبة فالكادرات كلاسيكية، وحركة الكاميرا تصوير عمرو فاروق تقليدية، وقبل كل شيء عليه ألا يواصل إلقاء نفسه في أحضان «فرقعة» إعلامية أساءت إليه، وخصمت من رصيده بأكثر مما خدمته، في أن يُداري على فشله كمخرج ويُطالب السينمائيين «بالوقوف ضد من يحاول أن يحجر على إبداعهم وفنهم أو يقيد حريتهم أو يسعى للتقليص من حجم هذه الحرية، خاصة بعد قيام ثورتين عظيمتين مثل «25 يناير و30 يونيو»، فما علاقة الثورتين العظيمتين بفيلم قبيح؟ وأي حرية تلك التي يتحدث عنها؟أدعوه صادقاً إلى أن يعود لبيته الحقيقي كمؤلف، ويترك مهنة الإخراج التي لا يجيدها، ويبدو غير ملم بقواعدها، ولغتها، وإيقاعها، وقبل هذا أحاسيسها، كما أطالبه بأن يبدأ من تلقاء نفسه في حذف كل ما هو فج وغليظ وقبيح في «أسرار عائلية» من دون أن ينجرف وراء «وهم» أنه يتعرض لمؤامرة أو خطة تُحاك في الظلام لإقصائه بعيداً عن قائمة مخرجي السينما المصرية.