رعب الخلود

يتوق كل منا إلى سماع الدعوات بطول العمر، ولا يوجد من لا تنفرج أساريره وهو يستمع إلى عبارة «الله يخليك»، وتنضم نبضات قلبه تضرعا بأن يستجيب الخالق لهذا الدعاء، إن التعلق بالحياة غريزى والتشبث بها صفة إنسانية إلا باستثناءات قليلة، عندما يفيض الكيل وتصبح الحياة أو بالأحرى الاستمرار فيها عبئاً ثقيلا..
غير أن اكتشافاً حديثا قد يقلب الموازين وتصبح الدعوات معه: يا رب يعطيك عمر ال«Turritopsis Nutricula»، «توريتوبيسيس نوتريكولا» وهو اسم حيوان مائى قطره أربعة ملليمترات، يعيش فى البحار وأساسا فى مياه البحر الكاريبى.. هذا الكائن البحرى متناهى الصغر يتجدد بصفة دورية حيث يعيش «شبابه»، وما إن يصل إلى «الشيخوخة»، حتى يعود مجددا إلى بداية الرحلة ويبدأ الدورة من أولها.
هذا الاكتشاف الخطير فتح أبواب العلم على مصاريعها، وبدأت الأبحاث للوقوف على سر «خلود» هذا الكائن، وما قد يهدى العلماء إلى العثور على سر الشباب، أو قل سر الخلود.. وقد تركت لخيالى العنان و«الاحتفال» بنجاح علماء البيولوجى، «الأحياء»، وإخوانهم علماء الوراثة، فى كشف السر المنتظر..
وعلى الفور تبرع القادرون للفرق العلمية بالغالى والنفيس للإسراع بالنتائج وبعدها دفع المطلوب طمعا فى عقاقير الخلود المستخرجة من الكائن البحرى الصغير، قبل أن تصبح هذه العقاقير «سلعة شعبية» فى متناول الجميع، وبذلك نعيش، حكاما ومحكومين، لقرون لا يعلم مداها إلا الله..
أطبق هذا الكابوس على أنفاسى وأنا أرى الحروب والصراعات على الموارد المحدودة فى الكرة الأرضية، ناهيك عن مؤامرات القوى المتحكمة فى استخلاص «سر الخلود» بحجبه عمن لا يروق لها ولا ينصاع إلى رغباتها.. وتتوارى الحكمة الخالدة بأن التغيير سنة الحياة وبأن جيلا يسلم الراية إلى جيل الشباب، إذ لن يتاح لأحد التفريق بين من عمره ثلاثون عاما أو ثلاثون قرنا!!
وجدت هذا الخاطر مخيفا إلى حد الرعب والشاب يقوم بزيارة جده الأول البالغ من العمر ألف عام مثلا، وبهذا فإن مجرد زيارة أجداده لكل منهم خمس دقائق مع وقت التنقلات، قد يحتاج إلى أعوام كثيرة، وأنه إن لم يفعل هذا فقد يوصم بالعقوق وقلة الأصل وسوء التربية.
مع ذلك أجرى استقصاء للرأى بعد اكتشاف خلود هذا الكائن، قامت به مجلة «بسيكولوجى ماجازين» حول الرغبة فى الخلود فجاءت النتيجة مفاجئة، حيث أعرب 39٪ من المستطلعة آراؤهم عن أنهم يتمنون الخلود، فيما أكد 61٪ أنهم ضد البقاء أحياء إلى أجل غير مسمى.
ولست أدرى ما ستقود إليه الأبحاث ولا كيف ستكون الحياة فى حال نجاح العلماء فى سبر أغوار هذا الكائن العجيب، ولكن خبراء فى معهد علوم بحرية أبدوا انزعاجا واضحا من تكاثر الكائن المذكور - لا أريد تكرار اسمه شديد الصعوبة - بصورة تهدد باجتياح العالم وذلك من واقع تكاثره بصورة تحمل على القلق فى مياه الكرة الأرضية، بعدما ضاقت به على ما يبدو مياه الكاريبى، وقالت دكتورة بالمعهد المذكور: نحن نشاهد اجتياحاً عالميا.. صامتا.
الذى يدعو إلى التأمل أن الكائن الذى يهدد العالم الآن، كان يقبع فى صمت فى قاع البحر وغافل الجميع بما وصل إليه من قوة - قد تكون تدميرية وأشد فتكا مما توصل إليه الإنسان من أدوات تدمير - وربما.. يتركه الإنسان يتكاثر فى هدوء.. بحثا عن الخلود.. أو عن وهم الخلود!!